علي شريعتي في قراءة نقدية

يقبل الكثير من محبي الكتابة الانتقائية من إيرانيين وعرب على كتابات علي شريعتي باعتباره مفكرا إسلاميا يميل للاشتراكية. التحليل الموضوعي لكتاباته يروي قصة أخرى.

لقد أثار بديهتي الجمع بين الرؤى المتخالفة وإقبال قراء المقالات والمقولات الانتقائية في معظم بلدان تعتنق الإسلام على الكاتب القومي الشيعوي ـ الأصولي علي شريعتي (1933 – 1977) الذي أعرفه لما يزيد على ثلاثة عقود بأهم مؤلفاته بلغة الأصلية والتي لا يزال بعضها يأسر شرائح من القراء العرب. وهذا الكاتب ذو الانصباغة الاشتراكية والانطباعة الانتقائية المنتزعة من مجموعة مواقف وآراء لا يمكن الجمع بينها بنمط تناسقي جامع الأطراف من منظور أكاديمي تخصصي، أعني من حيث المنهجية الصورية (منهجية العلوم الصورية = الشكلية) كونها مانعة الجمع في المسلمات والمبادئ، ومع ذلك حفزت الشعوب في إيران ضد النظام العلماني الملكي 1979 والديمقراطية النسبية التي كانت آنذاك. وعادة ما يختلط على القراء والكتّاب العرب بأنه خريج فرع السوسيولوجيا أو متخصص بالإسلام أو خريج تاريخ الأديان، لكن المصادر الفارسية التي قرأتها عنه بلغته الأم والتي أكتب وأترجم فيها لا تشير إلى اختصاص له بعلم السوسيولوجيا والإسلام سوى ما يذكر له من دكتوراه في تاريخ الأدب الفارسي لعام 1963 بأطروحة "فضائل بلخ لصفي الدين البلخي" من جامعة السوربون صادقت عليها السفارة الإيرانية بفرنسا.

وما لا يعرفه الكثير ممن لم يعش في إيران أن شعبية شريعتي تأتي من مقالاته الأدبية والقوة القلمية والنثرية الأدبية الفارسية الحديثة التي كان يمتلكها كموهبة للاحترافية الكتابية في مجال اختصاصه الأدبي وبطبيعتها تستلب ثلة من محبي الكتابة الانتقائية من الإيرانيين والعرب. وفي العقدين الأخيرين صار له إقبال في العراق، حيث تأتي مؤلفاته إلى جانب مؤلفات رموز التطرف للإسلام الشيعوي منهم محمد باقر الصدر ويشمل ذلك معظم العالم العربي والشام وشمال أفريقيا (تونس، والمغرب، والجزائر، ومصر) وتركيا ويستثنى من ذلك قراء الخليج العربي.

وفي تحليلي لآراء ومواقف هذا الكاتب المشحونة بالصياغات والتكوينات المختلفة والمختلطة من تيارات فكرية يرفد بها مقالات ومقولات له في سبيل أيديولوجيته، أرى من الضروري القيام بتحليل ونقد لبنيته الإسلامية الانتقائية ومبادئه الفكرانية التي يستعين بها وهي متجامعة بين الفلسفة التاريخية الماركسية والرؤى الاشتراكية والمواقف التاريخية من الإسلام الإيراني الأصولي والثقافة الشيعوية العامة، وفي الوقت ذاته متخالفة في ضوء التحليل والنقد الصوري الأكاديمي إن كان المنطلق من خلال هوية الإسلام غير الأصولي الذي يؤمن به المسلمون حاليا.

لقد نشط شريعتي بين 1964 و1969 خارج الحرم الجامعي للمرة الأولى في عداد أصحاب الكلمات في حسينية "إرشاد" إلى جانب رموز المعارضة للحكم العلماني والديمقراطي والملكي منهم علي خامنئي ومحمد بهشتي ومن هنا برزت شعبيته. وسرعان ما تميز عن هؤلاء المتشددين بتوظيف المفاهيم الاشتراكية والفانونية والإسلام الأصولي والأسلوب الأكاديمي في موضوعات عن الإسلام الذي فهمه من وجهة نظره. وفي رأيي هو بذلك ثاني أكاديمي إيراني بعد الشيعي الاشتراكي محمد نخشب (1923-1976) الكاتب الذي حاول المزاوجة بين التشيع وشيوعية دول أوربا الشرقية سابقا وهو من أبرز قادة "جمعية عَبَدة الله الاشتراكية" والتي انسلخت عن حزب مردم إيران = حزب شعب إيران. وأثرت هذه الجمعية على شريعتي فجعلته من أنصارها فلم يكن هذا الفكر الانتقائي في منأى عن مديات اهتمامه والتآلف معه بصفة خاصة لذلك فيُعجب بكتاب أبي ذر الغفاري للكاتب عبدالحميد جودة السحار (1913 – 1974) المتأثر بالاشتراكية والمنهجية الشيوعية كغيره في سوريا ومصر بثلاثينيات القرن الماضي فيترجمته كون السحار اختار هذا الصحابي ذا الرمزية الخاصة في الفكر الشيعي لملازمته علي بن أبي طالب أولا؛ ولأن المعايير والضوابط الاشتراكية تم تطبيقها على سيرته ثانيا مما جعل شريعتي أن يسمي ترجمة الكتاب "أبا ذر الاشتراكي العابد = ابوذر خدابرست سوسياليست". فهذا الآثر الترجموي يدل على توجهاته ويبقى كدلالة مركزية في أيديولوجيته إلى جانب مقال له في عام 1955 بعنوان "مدرسة الوساطة = مكتب واسطه" والذي نشر لاحقا بعنوان "تاريخ تطور الفلسفة = تاريخ تكامل فلسفه" في كتاب "سمات القرون الجديدة = ویزكي هاي قرون جديد" إذ يتبنى فيه موقفا بيّنا بعد المقارنة بين المدارس الفكرية التاريخية والسياسية والسوسيولوجية والإسلام، يؤكد من واقعه أن النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام قائم على الاشتراكية، وهي ممارسة تقوم على طريقة التفكير في الله، لذلك تعد هذه الممارسة حلا وسطا بين تطبيق النظامين الرأسمالية والشيوعية.

ومن وجهة نظري كمتخصص بالفكر الفلسفي في الإسلام والدراسات المعينة به فإن هذه المقارنة منتفية بانتفاء الموضوع كون بنية الإسلام الوحي والإيمان، وبنية الاشتراكية الاقتصاد أو الفلسفة السياسية ومنهجيتها الثورة. فالبنيتان متباينتان جوهريا فلا يصح أن يجمع بين هذا التضاد عينا مثلما لا يمكن الجمع بين مبادئ ماركس والقديس أوغسطين.

وهذا التداخل الفكري والتكدس الفكراني لا يمكن تبريره من منظور صوري نقدي في مجال الدراسات المعنية بالإسلام والاجتهاد الفكري فأختلف مع مَن يمجد ما كتبه هذا الكاتب الإيراني القومي ـ الشيعوي المتطرف وفكره الانتقائي من الإيرانيين والعرب وأنقد منهجيته المزدوجة في فهم الإسلام وأسطرة الشخصيات وشخْصنة الحوادث وأدلجة الأحوال والأحداث في الإسلام في سبيل المهمة التي نهض بها. ومع وجود الإشكاليات الجوهرية في مقالات ومقولات هذا الكتاب إلا أنني أجد آراءه أثّرت في رجال دين ووعاظ وكتّاب شيعويين فأعجبوا بها بسبب الفراغ المعرفي والآفافي بهوية الإسلام غير الأصولي فلم يتمانعوا من العمل السياسي ضد العلمانية الملكية بالانبناء على حمولته المفاهيمية كالمنهجية الاشتراكية والإسلام الأصولي والثورة وفلسفة التاريخ الماركسية وقد تجوهرت في معتقداته فأسس منها أيديولوجية شيعية، فتقبلها هؤلاء وثلة من طلاب الحوزة العلمية في قم آنذاك كعلي خامنئي فوظفوها في أدبياتهم. ولهذا التأثر قصة طولى مشهودة حتى الآن يمكن رصدها في خطابات وإلماعات خامنئي حتى اللحظة الأمر الذي يكشف عن هشوشة معتقداته ورؤيته الكونية الانتقائية وهكذا عبدالكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري آنذاك، وأستثني هنا الفيلسوف حسين نصر الذي كان ولا يزال مُعرِّفا جيدا بهوية الإسلام يملأ بعض الفراغ الفكري والإشكاليات بقراءات له عن الإسلام، لكنه يعمد في ذلك إلى الإسلام الشيعي أحيانا. وأما الإسلام الذي يقف في نقيض من اسلام شريعتي وخامنئي فهو ذلك الاسلام الذي لا إيديولوجية ولا ثورة ولا مواجهة فكرية ـ فلسفية فيه مع العالم الحديث كإسلام المتصوفة وإسلام الإخباريين، وقد تحدثت عن ذلك في دراسات أكاديمية ومؤلفات بشكل تفصيلي.

وما لا يعرف معظم الكتاب والنخبة العرب مقاربات شريعتي من فرانتس فانون المفكر الشيوعي المتطرف ذي الفانونية التي ترى أن العنف مبرر وهذا التبرير سمح لشريعتي للقول بالإسلام الثوري (الشيعية الثورية) على اعتبار فهمه أن إيران مستعمرة آنذاك يجب أن تتخلص من النظام الملكي وأنصاره. وهذا الإسلام الذي يفهَمهُ شريعتي إسلام اختلف فيه معه كونه ملفق بمصطلح الثورة المُصادر معناها في أيديولوجيته تتجاهل لوازم السياسة الحديثة وهي العلمانية والديمقراطية وتوابعها كالحريات المدنية وحقوق المرأة التي كانت في عهد الشاه بشكل وآخر واختفت في الجمهورية الإسلاموية الإيرانية. ونتيجة لذلك تعرض للاعتقال عام 1964 بعد عودته من فرنسا بوصفه معارضا للنظام العلماني ـ الملكي يرفض الملكية بناء على ما أشرنا من تأثره بالاشتراكية لأن النظام الملكي بالخصوص وإيران بالعموم كانت لها علاقات ودية مع الولايات المتحدة في الفترة 1899-1979 التي أنقذت إيران من التخلف والتأخر ووضعتها في مضمار الحضارة والثقافة في العصر الحديث وفتحت أمام إيران آفاق البحث العلمي في العلوم الطبيعية والتكنولوجيا والتقدم والتنمية والحقوق الأساسية للمواطن. وتأتي آراء شريعتي بصفة عامة بمفاهيم قرآنية منها الطاغوت وفرعون والجهاد والاستكبار والاستشهاد وآليات الثورة والاشتراكية وكأنّ تخلف إيران ناتج عن عدم تطبيق مبادئ الإسلام الأصولي وغياب القيادة الدينية التي تحدث عنها في مصطلح الولي الإسلامي في كتاب "أمت وإمامت" جاعلا من هذه المفاهيم جوهرانية إسلامية متطرفة لا يمكن عزلها عن مشروطات ما يعرف حاليا بالأيديولوجية الشيعوية ـ الخمينية التي تعادي أعظم بلد في العالم وهو الولايات المتحدة المتقدمة بالسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والصناعة والقانون والقوة العسكرية والقيم الديمقراطية.

إن الاهتمام المبالغ فيه لشريعتي تجاه ما نسميه حاليا بالإسلام الأصولي وأموره الذهنية والمفاهيمية كالأساطير والرموز والشخصيات والحوادث بخاصة قسم التاريخ والمواجهات الشيعوية التي وردت فيه كانت موضع استدلالاته المكثفة وهو بذلك يعمل بما أسميه بالأرخانية للذهن الإيراني، أي يريد من أحوال وأحداث وشخصيات التاريخ أن تبقى متصرمة عن الدلالة الزمكانية والظرفانية. وهذا ما يدأب عليه الكتّاب الأصوليون الإيرانيون والعرب في محاولة لتغييب العقلانية والهيرمنوطيقا الفلسفية في فهم الإسلام ومتعلقاته. فالأرخنة في رأيي تكشف لنا مدى ابتعاده عن العقلانية وتوضح حجم الغفلانية التي منعته عن الوعي بالآثار السلبية للإسلام الأصولي على مستقبل إيران ناهيك عن فقدانه الرؤية البديلة للنظرية الديمقراطية والنظام الملكي الذي ناهضه فساهم في مجيء فقهاء الشيعية الثوريين الذين انتفعوا منه بشكل مباشر لما له من توظيف لتلك المفاهيم إلى جانب الفقه وهو منظومة معرفية دينية انطلقت في القرون الأولى من تاريخ الإسلام وفي رأيي فقدت أهميتها بخاصة ما يسمى بالجهاد والسياسة الشرعية في ظل القانون الدولي وقانون ودستور الدولة وقيادة الجيش وعلوم السياسة، فلا مشروعية للجهاد من منظور تنويري ديني. ومع ذلك يراه الكتّاب الإيرانيون بأنه تنويري، ورب سؤال وهو كيف تصدق صفة التنوير على كاتب يحث على الجهاد بحمولته الفكرانية كما في كتاب "أبي أمي نحن متهمون" بشكل بيّن ويعاد المعطيات ومكتسبات الحياة الحديثة كالعلمانية؟ من الضروري عدم إضفاء صفة التنوير هنا وبذل الرؤى التنويرية الحقة في إسقاط الممارسة الاجتهادية لهذا المصطلح سواء وفق المنظور الشيعي (=استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية) أو السني (= الاجتهاد على رأي إمام المذهب) وإغلاق بابه من الفقه نهائيا. وما يمكن أن أبينه بهذا السياق عجالة أن المواضعة الفكرية بالانبناء حكم فقهي هي دلالة أخرى في تماديه بالإسلام الأصولي.

ومن هنا لا أرحب بفكر شريعتي وفهمَهُ من الإسلام واختلف معه في الجمع بين الفقه والاشتراكية، والتنوير ومعاداة العلمانية، باستدلالات ناقصة ومتناقضة أعني تعميم الجزئي من الحوادث والأحوال التي جرت في الإسلام وأحكام الفقه والرموز الدينية وإلى ما ذلك مما بينتُ لينتج عن ذلك إسلاما نوعيا يمكن وصفه بالإسلام الشمولي إذ من منظوره وكتّاب آخرين إسلاميين أن الإسلام يستجيب لكل حدث، وكل حدث له موقف فقهي. فإن هذه الرؤية غير سليمة بخاصة لو قسمنا الحدث إلى شخصي ونوعي وعمومي، فالإسلام يحدد الحدث الشخصي فإما في العمومي فهو يصادر معظم الأعراف والتقاليد المجتمعية والطقوسية باسمه ففي مسألة السلام مثلا بين دولتين هنا نجد المسألة تتعلق بمصالح الدولة والشعب والإنسانية واحتمالات القوة العسكرية وغيرها، ولا يمكن إجراء السلام على أساس الإيمان والفقه فلا حاجة إليه في ظل البدائل العلمية والقانونية والدستورية والخبروية. فبالإمكان إسقاط فقه السياسة الشيعي والسني إذا ما تم فحص ما فيه من مسائل باتت غير قادرة على معالجة القضايا السياسية الراهنة. فالإسلام غير شمولي ولا يثري الحدث العمومي كالسياسة والاقتصاد والإعلام مثلما تثريه العلوم الإنسانية والطبيعية وهذا واضح علميا بناء على اختلاف موضوع الإسلام والسياسة. ثم أي محاولة في السياسة باسم الإسلام يفتقدها الدليل القطعي ويلزم تصنيفها ضمن الإسلام السياسي بغض النظر عن التسمية كون المسمى مسألة متداخلة بين السياسة والإسلام وأساسا الإسلام ليس بمعرفة يمكن إعمادها في العلوم السياسية والاقتصادية. ولذلك تبقى أهمية الإسلام غير الأصولي في الابتعاد عن السياسة وفي أدائه الحاث على تقارب الإنسان من خالقه وهو الله، وتعاليمه الروحية التي تنصب على سُبل السلام للآخرة، فلا أيديولوجية ولا فكرانية ولا ثورة فيه.

ومن هذا المنطلق أرى أن الآراء والأيديولوجية التي تبناها على شريعتي على أساس مفاهيم وأحكام من الإسلام الأصولي وقيامه بالأسطرة التاريخية والشخصنة المبالغ فيها لبعض الأسماء والرموز وتوظيفه المنهجية الاشتراكية وتحفيزه لأسلمة مسائل يطلق عليها في الفقه التقليدي بمسائل منطقة الفراغ (المسائل الفراغية من منظور شيعي والنوازل والطوارئ العديمة النصوص من منظور سني) وتصرفه فيها من منظور تقليدي فقهي وكلامي شيعوي فقد دعمت مباني وأسس تكوّن الإسلام الإيراني الأصولي الحديث في المجتمع ومضايقة أشكال الإسلام المعتدل كالصوفي والاجتماعي. فليتصور لو أن شريعتي قد وظف ما لديه في استمالة شعبيته نحو إسلام المتصوفة كمولانا جلال الدين الرومي وعمر الخيام وكتب عن إمكانية المعايشة مع الأنظمة السياسية على اعتبار أن الدين شيء والسياسة شيء آخر ولا نوايا وأيديولوجية للإسلام في معارضة الأنظمة وإرادة الشعوب في تحقيق الديمقراطية والعلمانية والحقوق المدنية. وحيث لم يكن ذلك فقد أراه مشاركا نافذا في بلورت مفاهيم الساسة الإيرانيين المعادية للأنظمة والمعايير العالمية والأعراف الدولية حتى اللحظة.

وبالانباء على ما مضى يبقى شريعتي من وجهتي التحليلية النقدية أبرز كاتب انتقائي ومنظرا للإسلام الإيراني الأصولي ومؤدلجا شيعويا يعتاش من بعده إلى اليوم على المقولات والمقالات التي تركها صنف من القراء والكتّاب الإيرانيين والعرب الذين لا يزال يعد عندهم الدين كأهم رؤية وأيديولوجية في الحياة وحلّ أولى للأحوال والحوادث. مع العلم أن أيديولوجية شريعتي ورؤاه يراها ثلة من النخبة الأصولية في إيران لا تزال أدوات فاعلة ضد النظام الحالي لا واسطة معرفية للبدالة نحو التحول إلى العلمانية والديمقراطية، بل لنظام سياسي شيعوي آخر وفلسفة سياسية شيعوية أخرى.