عن المركز العلمي للترجمة ومستقبل المعرفة

لا توجد حضارة قائمة بشكل مستقل في عالم اليوم، بل نمو حضاري بمقاييس المجال الذي تعيش فيه.

نجحت منذ أكثر من ثلاث سنوات في تدشين وإدارة المركز الدولي للكتاب بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ووضع بروتوكول ثقافي حاكم له. حقق المركز في فترة صغيرة أرقام مبيعات قياسية، وبمجموعة من الندوات المتنوعة صارت للمكان روح مميزة. ووضعت خطة برقمنه موجودات المركز وإتاحتها "أونلاين" للجميع، ومن خلال أجهزة حاسوب موجودة بالمركز للزائرين، في سياق تصور شامل قدمته للتعامل مع المركز كموقع ثقافي متكامل يشمل معظم النشاطات الثقافية.

في الوقت نفسه وقبل أن أحصل على جائزة الدولة عن ترجمتي لـ"تأملات في المسألة اليهودية" لسارتر، أُعلنت القائمة القصيرة لجائزة المركز القومي للترجمة متضمنة ترجمتي لديوان "أغنيات البراءة والتجربة" لوليم بليك. وفي خضم نجاحي في العبور بالمركز الدولي وتحقيق نجاح أشاد به الجميع، ووصول ترجمتي للقائمة القصيرة لجائزة المركز القومي للترجمة، تلقيت التكليف بإعادة إنتاج التجربة وتفعيل المركز العلمي للكتاب، بالهيئة المصرية العامة للكتاب أيضا.

هنا نظرت للأمر كباحث في "دراسات التدافع الحضاري" تلك التي أعطيها مفهوما يقوم على أن الوجود في العالم ليس وجودا فرديا، بل هو وجود مزدوج يقوم على إدراك لطبيعة الذات وهويتها، في علاقتها بإدراك طبيعة الآخر وهويته، وأن احتمالات المستقبل بالنسبة لجماعة بشرية ما. فبقدر ما ترتبط بظروفها الذاتية وتاريخ تطورها الخاص، فهي ترتبط بالقدر ذاته بالظروف الموضوعية خارجها وبموقف الآخر وتاريخ تطوره، ومسارات التقاطع بينهما شدا وجذبا، هيمنة وخضوعا.

فالحضارة ومشروع النهضة لأي أمة ما، هما ظاهرة بينية تقوم على قياس تطورها بالنسبة للأمم الأخرى وفق عدة معايير، تؤدي في محصلتها النهائية لتفوق أمة على أخرى، والتدافع هو مفهوم أقرب للتنافس وليس الصراع، الصراع حالة من حالات التدافع، والوفاق حالة أخرى منه.

ومثلهما نجد أن الخضوع حالة والهيمنة حالة، وأهم ما في الخضوع الظاهر هو سبل المقاومة والصمود وتحين فرص النهضة، وأهم ما في الهيمنة ودروسها المستفادة عبر التاريخ هو كيف يتصرف المنتصر، وما الذي فعله بالظاهرة الحضارية العالمية عندما هيمن، من الجانب الإنساني في علاقته بالآخرين، ومن الجانب المدني وما أضافه لتراكم التمدن والعلم والتحضر ككل.

وفق هذا المنطلق الحضاري والمعرفي قدمت مشروعا للمركز العلمي للترجمة يقوم على عدة جوانب أساسية:

دراسة الصورة النمطية المستقرة عند الآخر الغربي التي شكلها الاستشراق، واستهداف تغييرها من خلال مشروع للترجمة العكسية إلى لغات العالم وليس منها، يقوم ليس على ترجمة الأدب وبعض أمهات الكتب أو كلاسيكيات المكتبة العربية وفقط، إنما يقوم على اختيار نقاط بعينها لها ثقلها عند الموازنة الحضارية، وعمل دراسات جديدة وفق خطاب علمي موضوعي جديد يعي خطاب الآخر ويدركه من منظور التدافع الحضاري، ثم ترجمتها إلى اللغات المعنية شيئا فشيئا.

تحويل المركز العملي للترجمة، إلى مركز أبحاث متكامل، يربط خطته في ترجمة الأعمال من اللغات الأخرى بأهدافه في بحث سبل النهضة المصرية والعربية، مركزا على الدراسات الاستشرافية والدراسات المستقبلية والحضارية، والنظريات الإنسانية والاجتماعية الجديدة في الألفية الجديدة، مع التأكيد على عدم صدور ترجمة من اللغات الأخرى دون أن تصحبها دراسة تبرز سياقها في ثقافتها وحضارتها الأم، وأهميتها وعلاقتها بالثقافة العربية والمصرية (مدخل التدافع الحضاري).

الانفتاح نحو وجهات حضارية جديدة خاصة في الثقافة والأدب الأفريقي واللاتيني والأسيوي، لاستكشاف احتمالات المشترك الحضاري والبناء عليها، والخروج من هيمنة المركز الأوروبي فكريا وأدبيا التي سيطرت على العقلية العربية في القرن العشرين، وخلقت أصناما أيديولوجية ومعرفية وثقافية.

وضع استراتيجية جديدة للترجمة في هيئة الكتاب ككل، وضبطها داخل إطار المركز العلمي للترجمة، بما يواكب الاحتياج الحضاري الجديد للبلاد في ظل استشرافها لمستقبلها وبحثها عن سبل رصف الطريق إليه، واستكشافها إرهاصات النهضة ونماذجها المعرفية التي تصلح للتطبيق على الحالة المصرية، والسيناريوهات الممكنة في هذا الاتجاه الذي يربط المعرفة بالاحتياج الحضاري الآني للديار المصرية والبلاد العربية.

وفق هذه النقاط الأساسية الخمس وضعت تصوري لتفعيل المركز العلمي للترجمة بالهيئة المصرية العامة للكتاب منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأسعدني مؤخرا اشتباك د.أنور مغيث رئيس المركز القومي للترجمة، مع تصوري لتوحيد وضبط جهود الترجمة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وما طرحته سابقا حول مشروع الترجمة العكسية وتغيير الصورة النمطية التي رسمها الاستشراق، خاصة ما طرحه د.أنور حول الاستفادة من دروس تجربة الهيئة سابقا في مشروع "تصدير الفكر العربي"، وإشادته بالدور الاجتماعي والجماهيري للهيئة في مجال الترجمة من ناحية السعر المنخفض والانتشار الجغرافي الواسع لمنافذ بيع الهيئة، وترحيبه بفكرة تعدد الجهود وتجاور وجهات النظر داخل قطاعات وزارة الثقافة العاملة بمهمة الترجمة سواء بهيئة الكتاب او قصور الثقافة.

وبدوري أرحب بهذا التعاون خاصة ما يمكن أن يقدمه المركز العلمي للترجمة من دعم للمركز القومي، في معيرة الدراسات الإنسانية وضرورة أن تصدر عن المركز القومي مصحوبة بدراسة نقدية وافية، في سياقها في ثقافتها الأم وعلاقتها بسياقنا الحضاري الخاص (مدخل التدافع الحضاري)، وما يمكن أن يقدمه المركز القومي من قاعدة بيانات وافية للمركز العلمي للترجمة، تشمل العديد من الجهات الخارجية التي سبق وتعاون معها المركز، لبحث إمكانية التعاون معهم من خلال مشروع الترجمة العكسية وتغيير الصورة النمطية وفق منظور التدافع الحضاري والنظر للظاهرة الإنسانية كظاهرة بينية.

وفي هذا الصدد لا يفوتني الإشادة بالدعم الذي يقدمه رئيس الهيئة الحالي د.هيثم الحاج علي، لمشروعي في ضبط وتطوير نشاط الهيئة في مجال الترجمة من خلال المركز العلمي للترجمة، خاصة في نقاشاته وحواراته المستمرة مع الجميع، وتصوره أن يولد المركز عملاقا رغم ما قد يتسبب فيه ذلك من تأخير وتأجيل مستمر ومتكرر طوال السنوات الثلاث الماضية، إلا أن هذا التصور يصحبه التوافق على سياسات المركز في ضبط نشاط الترجمة داخل الهيئة، وهو الذي تمثل مؤخرا في تفعيل الجزء الأول من بروتكول تعاون الهيئة مع الحانب الصيني في مجال الترجمة، بما سيحويه من مفاجآت مبهجة للثقافة المصرية، إذا صارت الأمور وفق ما آمل.

وتبقى المعرفة سلاحا ذا حدين: إما أن تتحول لرافد مهم في خدمة مشروع النهضة لأمة ما، عبر الانغماس في دراسة حالته الخاصة واستكشاف مستودع هويته، والبحث في سبل استعادة نموذج تفوقه مستقبلا، وأسباب انكساره قديما؛ أو تصبح مجالا للإشغال والمراوحة في المكان لا نفع منها ولا ضرر، مجرد صخب وضوضاء متفرقة لا تعرف معنى الانتظام في سيمفونية جماعية الأداء، لخدمة مشروع وطن وحلمه بالنهضة واستعادة المكانة المستحقة بين الأمم.