عن كوشنر و"غزة أولاً"

"خطة مارشال" الغزية التي تسربها أوساط كوشنر محاولة لمعالجة السياسي بترياق الاقتصاد.

تتقاطع المعلومات حول جولة الوفد الأميركي الذي قاده جاريد كوشنر مستشار وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب على السعودية والأردن وقطر ومصر وإسرائيل لتؤكد أن الإدارة الأميركية ما زالت بعيدة عن إنتاج "صفقة القرن" الموعودة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأن من التقى بكوشنر ووفده أدرك أن واشنطن توحي بأن الصفقة مؤجلة وأن مداولات الفريق الذي يعمل حول كوشنر ما زال في مرحلة جس النبض ولم تخلص إلى قاعدة متينة لإعادة إطلاق عملية تفاوض ناجعة.

والظاهر أن ترامب وفريق "الصفقة" بقيادة كوشنر يهرب من الإجابة عن الاستحقاقات والأسئلة البنيوية السياسية حول مستقبل فلسطين في تلك التسوية الموعودة باتجاه مقاربة مرتبكة غير مقنعة تدور حول معالجة الوضع الإنساني والمعيشي في قطاع غزة. وفيما أطلقت الصحافة الأميركية على تلك المقاربة إسم "غزة أولاً"، فإن نفس هذه الصحافة تتعامل باستخفاف مع استفاقة كوشنر وصحبة على وضع غزة، خصوصا وأن الإدارة الأميركية اقتطعت مبلغ مليوني دولار من الحصة المالية التي تقدمها واشنطن لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (اونروا) المعنية بالاهتمام بالمسائل المعيشية والإنسانية وتلك المتعلقة بالتعليم والطبابة.. إلخ للاجئين بما في ذلك أولئك في القطاع.

ولا يجد المخضرمون في فلسطين رابطا ما بين "غزة أولا" التي شكلت مدخلاً لتنفيذ اتفاقات أوسلو و"غزة أولا" التي يلمح إليها كوشنر بتشجيع مريب من الطرف الإسرائيلي على الرغم من أن أولية غزة في مشروع كوشنر تطرح علامات استفهام حول حدود الانقلاب الذي قد تقوم به واشنطن-ترامب في فلسطين على خلفية انقلاباتها ضد إيران والصين وكندا وأوروبا وتقاربها الممكن مع روسيا.

وقد يستغرب المراقب المنحى الساذج الذي يعالج به فريق الإدارة الأميركي المعني بهذا الملف مسألة يفترض أن لواشنطن بالذات ودون غيرها خبرة متراكمة تعاقبت عليها الإدارات السابقة. وقد يتساءل المرء عما إذا كانت واشنطن تستخدم ورقة غزة لابتزاز رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وعما إذا كانت إدارة ترامب عازمة على اعتماد حركة حماس في غزة بديلا يعوّضها عن القطيعة التي تمارسها رام الله تجاه واشنطن منذ قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وواضح أن الصفقة الموعودة تسعى لإعادة اختراع دروب وسبل يفترض أن واشنطن استنفدتها على يد مبعوثين ووسطاء ودبلوماسيين تخصصوا في مسألة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، لكنها في الوقت عينه تتحرى شركاء في المنطقة كما في فلسطين لتسويق مشروع له سمات البزنس التي أجادها ترامب كما كوشنر قبل ولوجهما أبواب البيت الأبيض.

وتمثل "خطة مارشال" الغزية التي تسربها أوساط كوشنر محاولة لمعالجة السياسي بترياق الاقتصاد. بمعنى آخر يعمل كوشنر وفق مناهج اقتصادية تدعو لجعل السوق وتدفق السلع والخدمات وتطوير البنى التحتية تفرض أمراً واقعا للتعايش بين إسرائيل والفلسطينيين على نحو يسهّل لاحقا استيلاد حلّ سياسي نهائي.

غير أن المتأمل لسريالية هذا المشروع لا يمكن إلا أن يرى به صدى لكساد أطروحات كوشنر وفريقه السياسية. لا يبدو أن عواصم المنطقة صفقت لصفقة كوشنر وإن استمرت في الإصغاء لكافة الموفدين الأميركيين الذي يترددون إلى المنطقة لجس نبضها ورد فعلها حيال آخر المنتجات المتعلقة بالصفقة وضجيجها. فقد بدا واضحاً أن تلك العواصم التي نقلت لعباس أعراض "صفقة القرن" الأولى كانت تعرف وتنتظر موقفا فلسطينيا حازماً في رفضها على نحو لا يستدعي صداً عربيا لجهد أميركي محكوم عليه بالفشل.

وتقوم نظرية الفشل تلك ليس على مواقف الأطراف المعنية مباشرة لاسيما الفلسطينية الإسرائيلية، بل أيضا على الصراع داخل الإدارة الأميركية حول طبيعة الدور الذي يلعبه زوج إبنة الرئيس الأميركي في هذا الملف كما في أي ملفات أخرى. وربما كان لافتاً أن ترامب الذي يعشق الأضواء التي تجذبها قراراته ومواقفه وتصريحاته، تمتع بالضجيج الذي أحدثه قراره المثير للجدل بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، تاركاً لصهره مهمة صعبة معقدة مآلها الفشل كما فشلت جهود مبعوثين أميركيين أكثر خبرة ودراية وعراقة من كوشنر وفريقه.

يتوجس الفلسطينيون من أن تكون "غزة أولاً" بالنسخة التي يروج لها كوشنر مقدمة لإنشاء دولة مستقلة منفصلة عن الضفة الغربية. يقلل فريق كوشنر من ذلك الأمر وينفي ذلك ويؤكد العمل من أجل قيام كيان سياسي فلسطيني يجمع الضفة والقطاع. غير أن حماس أوساط إسرائيلية لـ "مارشيلية" كوشنر وغيرته على الوضع الإنساني في غزة يفصح عن أن نفي السياسة في مقاربة "الصفقة" يحمل الماء إلى الطاحونة الإسرائيلية من حيث التعامل مع المسألة بصفتها تفصيلاً تقنياً لا علاقة للتاريخ والجغرافيا به يتم علاجه بأدوات تقنية توفرها وفورات مالية على منوال ما فعل الجنرال جورج مارشال لإنقاذ أوروبا عام 1947.

على أن أسئلة كثيرة تدور حول سبل الاستثمار في غزة التي تحكمها حركة حماس المدرجة على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة. والظاهر أن هذا الأمر تفصيلي يمكن تجاوزه لتمرير صفقة على مقاس القرن، خصوصا أن مواقف حماس الغامضة بشأن جلبة الصفقة وغزيتها يترك الباب موارباً أمام إمكانية استعداد الحركة للتماهي مع جهود اقتصادية تغيب عنها السياسية. وقد يكون ما كشف عنه عن وساطة قطرية بين حماس وإسرائيل أحد واجهات إعداد حماس للعب دور إيجابي في مقاربة "غزة أولا" التي قد تشتم منها الحركة طموحاً بأن تفتح مرحلة "حماس أولا" في نهايات أي مداولات لانتاج الصفقة أو أية صفقة أخرى مع إدارة أخرى.

ورغم السمة الفجة لإطلالة كوشنر على غزة إلا أن رام الله لا تهمل ما يحيكه فريق الإدارة الأميركية في شأن مستقبل فلسطين. لم يأت اجتماع الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء السابق سلام فياض من فراغ. الاجتماع جاء بعد شبه قطيعة وبطلب من الرئيس الفلسطيني نفسه. جرت خلوة الرجلين في بيت عباس ولم يتسرب عن محادثاتهما الكثير. يحمل فياض شيئا ما أصغى إليه عباس باهتمام. لفياض اتصالات إقليمية ودولية أوروبية وأميركية ويحظى بعلاقات جيدة مع عواصم القرار الأساسية في المنطقة.

على هذا أثير ضجيج حول مستقبل الحكومة الفلسطينية. يود عباس تحريك مياه راكدة. الرجل مصر على القطيعة مع الإدارة الأميركية منذ أن باتت القدس في عرف ترامب خارج أي تفاوض. القطيعة حازمة طالما أن واشنطن تراجعت عما كانت تعهدت به في عهد إدارات سابقة. والقطيعة حاسمة وحتى إشعار آخر طالما أن العواصم العربية الحليفة المتواصلة مع واشنطن لا تجد نجاعة من مد أي وصل فلسطيني أميركي.

على أن واشنطن قد لا تحتمل كثيراً هذا الانسداد، خصوصا وأن ترامب الذي كان قد تعجب سابقا من عجز أسلافه عن توفير حل، جاءت مقاربته بشأن القدس لتجعل من أي حل أمرا مستحيلاً. يبرر كوشنر "صفقته" لصحيفة القدس المقدسية. يطرق أبواب رام الله مدافعا عن صفاء نواياه لكنه يلمح بصبيانية بخيار غزة دون أن يكون قادرا على إنتاج مولود كامل الملامح في هذا الصدد.