عوالم محمود سعيد بين المادية والروحانية

ماجدة سعد الدين تستعرض أعمال الفنان التشكيلي محمود سعيد وتنظر مليا في عارياته، وتتحدث عن دراما الصمت في أعماله، وعن المعمار في لوحاته.
توفيق الحكيم: محمود سعيد جمع بين يقظة الحس ويقظة الروح معا
الفنان احتوى الإسكندرية في روحه فرأى ما لا نراه، وسمع ما لا نسمعه، وردّد أمواج البحر وإيقاعه على اللوحات
محمود سعيد يبدأ أول الخط في الفن المصري المعاصر في إسكندرية القرن العشرين
عوالم محمود سعيد تطالعنا بسحر وخيال يستشعره من أوتي ملكة التخيل لكي يدرك ما في أبعادها الزاخرة من إحساسات غامضة ورؤى أسطورية

في كتابه زهرة العمر يقول توفيق الحكيم: "الفنان النابض بالحياة إما أن يكون متيقظ الحس إلى حد الوحشية أو متيقظ الروح إلى حد الصوفية، ومحمود سعيد جمع بين يقظة الحس ويقظة الروح معا".
وفي كتابها "محمود سعيد بين المادية والروحانية" تتساءل د. ماجدة سعد الدين: هل المد والجزر للبحر لهما أثر على الفنان؟ هل أوصلا "سعيد" إلى هذه الصوفية التي نراها في كثير من أعماله؟ هل لا نهائية البحر والأفق وامتزاج البحر والسماء لهما أثر في أعمال سعيد؟
ولكي تجيب ماجدة سعد الدين عن سؤالها هذا راحت تستعرض أعمال الفنان التشكيلي محمود سعيد وتنظر مليا في عارياته، وتتحدث عن دراما الصمت في أعماله، وعن المعمار في لوحاته فتصفه بأنه معمار روحاني ومادي يؤكد تنافر قطبي الصراع المحتدم في روح "سعيد".
وترى أن في عارياته معمارا راسخا تبزغ منه مادية مثل لوحات "عروس البحر" 1932، و"ذات الجدائل الذهبية" 1933، و"السابحات" 1934، و"حاملة القلل" 1936، و"على الأريكة الخضراء" 1943، و"على الوسائد" 1944، و"ذات الأساور الزرقاء" 1950 وغيرها.
وتوضح سعد الدين أن لوحة "الصلاة" 1934 الموجودة في متحف الفن الحديث بالقاهرة بها صمت مهيب، فالمصلون والأقواس اتحدا في منظور لا نهائي من خلال الإحساس بالدائرة التي ينتظم تحتها الجميع شخوصا ومعمارا.

شخصيات أسطورية، لا نعرف من أين جاءت، لقد جعل سعيد الوهم حقيقة وجسّد اللامرئي وحوّله إلى مرئي ملموس نراه رأي العين

وعن الإيقاع في لوحات محمود سعيد تشير المؤلفة إلى أن الفنان احتوى الإسكندرية في روحه فرأى ما لا نراه، وسمع ما لا نسمعه، وردّد أمواج البحر وإيقاعه على اللوحات، فكان الإيقاع نغمة "سعيد" في لوحاته.
أما عن الإسكندرية في أعمال الفنان، فتستعين المؤلفة بمقولة د. نجيب بلدي أن الإسكندرية امتازت بالجمع بين المعاني التي ابتكرها فلاسفة أثينا، والمعاني والقيم الدينية من ناحية أخرى، والتوفيق والتلفيق بينهما، وتعتبر فلسفة الإسكندرية في نهاية هذا الخط الممتد من أفلاطون وينتهي عند تحول الرواقية.
وترى أن سعيد يبدأ أول الخط في الفن المصري المعاصر في إسكندرية القرن العشرين. وتتساءل: هل كان التحوير في أعمال سعيد من جراء التوفيق والتلفيق في فلسفة الإسكندرية، وأنه ميراث حضاري وتواصل حضارات؟ وهل يكون "سعيد" في إبداعاته – التي نستشعر فيها  روحا تتأرجح بالنور، وفيضا تتجلى ظلاله، وعشقا يسمو جمالا وجلالا - هو عين الكون المبصرة؟
ومن الإسكندرية إلى البحر حيث كان سعيد فنانا تأمليا يراقب حركة الأمواج والصيادين التي ستؤول إلى سكون، هذه الحركة في أبعاد روح الفنان نراها متألقة في كثير من إبداعاته، ثم تهدأ الحركة لنرى جلال ومهابة السكون. لقد كان جوته يرى نفسه "قوقعة سحرية طافية على الأمواج العجيبة" وينظر إلى نفسه وحيدا "ينصت من صومعته إلى صوت البحر الهائج" وهكذا كان محمود سعيد.

وتؤكد ماجدة سعد الدين أن سعيد استمد فلسفته من البحر، دائرة أبدية لا نهائية تحكم منظومة البحر، أخذ سعيد منه عمق الأشياء والمعاني الزاخرة، من موج البحر ولقائه مع رمال الشطآن، لقاء أبدي يحكم فلسفة "سعيد" وكأنه قدر.
في الفصل الثاني من الكتاب تتحدث المؤلفة عن سعيد عاشق الجسد الإنساني، وتعدد أسماء اللوحات التي أبرزت ذلك الجسد بداية من "هاجر" 1923، وانتهاء بـ "ميناء بيريه عند الشفق" 63 – 1964 (قبيل وفاة الفنان) ومرورا بـ "عروس البحر" 1932، و"الصيادون في رشيد" 1941، و"دعاء المتعطل" 1946، وغيرها.
وتشير إلى أنه من بين هذه اللوحات كانت حياة "سعيد" زاخرة بصراع نراه من خلال الظلال والنور والألوان والكتل تزخر بمادية وصوفية. وترى أن عوالم محمود سعيد تطالعنا بسحر وخيال يستشعره من أوتي ملكة التخيل لكي يدرك ما في أبعادها الزاخرة من إحساسات غامضة ورؤى أسطورية تنبع من أغوار وترانيم الفنان تجاه الكون والحياة.
وعن نقطة الصراع المتناقضة في شخصية بنت البلد المصرية تورد المؤلفة رأي الناقد الفني مكرم حنين الذي يقول: "في رأيي أن بنت البلد المصرية تجمع بين الإنسانية والحيوانية، بين الصفاء الروحي والاشتعال الجنسي، بين المرح الباسم والحزن القاتم. إنها وعاء كبير تغلي فيه المتناقضات وتتصارع فيه الأضداد"، وبالتالي كان يصورها بمزيج من اللون القاتم يهاجمها الضوء بتدرج حتى تصير مبهرة أشبه بومض النور الذي يباغت سطوح الأجسام كأنه يومض ليكشف عن روعتها. 

يجمع بين الفن والأدب والتشكيل والحروف والمتعة والاستفادة
تذوب الشخوص وجدا في حب الله

أما عن بنت بحري فتصفها ماجدة سعد الدين بأنها موال "سعيد" الشعبي وأرغوله الذي تغنى به في أعماله. وترى التعبير على وجه "هاجر" 1923، والنظرات المحدقة، والظلال والنور، وراءها خلفية صامتة ساكنة. وتصفها بأنها كتلة معمارية بها رسوخ وكل عناصر اللوحة تشترك في هذا السكون.
أما في لوحة "ذات الرداء الأزرق" 1927 فنجد نظرات هائمة تنتظر الربان، ذبذبات لونية بين ظلال ونور على الوجه، تهمس في آذاننا، وننصت إليها بأحداقنا، نرى الجمال يحاور أفئدتنا وعقولنا لكي تسمو وتبتهج مآقينا، ويتلألأ اللون الأزرق على جسد الفتاة، وتنبض بشرة الجسم بحيوية، وجهها وملامحها ذات نظرات موحية، وفي الخلفية منظر للبحر والشراع وأشجار وبيوت. وتوضح المؤلفة أن الفتاة ذات الرداء الأزرق مهيمنة على التكوين، ويشع اللون الأزرق على  اللوحة السوداء في رداء الفتاة وفي الذبذبات الرائقة لماء البحر والأشرعة التي تتهادى في المسير تؤكد الحركة، وتضفي بظلالها على الماء، في الخلفية السماء زرقاء تشع وتتلألأ، تحتوي الفتاة والمنازل والأشرعة.
وتورد ماجدة سعد الدين رأي الناقد مختار العطار الذي يرى أن شخوص سعيد لها ملمس نحاسي وبشرة صلبة لا يمكن اختراقها، وقوام فارغ، ونظرات أبعد من الأفق، لها قوة هرقلية، شخصيات أسطورية، لا نعرف من أين جاءت، لقد جعل سعيد الوهم حقيقة وجسّد اللامرئي وحوّله إلى مرئي ملموس نراه رأي العين.
وتؤكد أن سعيدا في تصويره فتاة مصرية يصور الأنوثة المصرية تسير على الأرض في هالة من الحيوية، إنه يصور الجوهر الدائم وليس المظهر العابر.
في الفصل الثالث تتحدث الكاتبة عن "سعيد بين الجميل والجليل" وتضرب مثلا بلوحة "الدراويش" حيث الحركة الدائرية، وحيث تذوب الشخوص وجدا في حب الله، والوصول إلى المطلق، فالدائرة ومفهومها للسمو وللوصول، حركة تؤكدها الظلال والنور، وما يساعد على ترسيخ الحركة اللانهائية هذه الطرابيش وامتدادها إلى أعلى لتحقيق الانسجام، وملامح الدراويش تذوب وتمحى وتتلاشى من أثر الوجد.
إن كتاب د. ماجدة سعد الدين يجمع بين الفن والأدب والتشكيل والحروف والمتعة والاستفادة، ويزداد ثراؤه بأربعين لوحة من أشهر وأهم لوحات محمود سعيد على مدى مراحل حياته الفنية المختلفة.