غرس الشجرة "الإنسان" في الوادي العجيب

قصة عماد حسن الشافعي تحكي عن الطفل الذي يشاهد والده عالم الجيولوجيا دائمًا مستغرقًا في المطالعة، غارقًا في الكتابة، فورث منه هذا الشغف.
القصة تأخذ القارئ بواسطة تقنية الحلم، إلى عالم الأشجار الصغيرة المزهرة والتي حلم بها الطفل بعد أن تصفّح كتابًا في مكتبة أبيه حولها
قيم القصة التربوية الرئيسة تتمثل في غرس محبة "المعرفة"، ووسائل تحصيل هذه المعرفة سواء بقراءة المسطور في الكتب، أو من خلال المشاهدة، والتجربة

أدب الأطفال هو أدب قيمى فى المقام الأول، ومفردة "أدب" تعني سحر الفن، وفى رأى البعض تعنى استثمار فكرة مشهورة تدور حول ما يسمى "المعادل الموضوعي"، ويطلق عليها البعض مسمى "المرايا"، وهى ببساطة تعني "الرمز" القادر على الإيحاء بالمعنى المراد، أو وصول الأديب لصورة حسية تجسد العاطفة وتعبر عنها أي تعادلها. بالتالي هذا هو الفن، كما يرى نقاد: الأداة البلاغية التي يستعملها الأديب حتى لا يقع في التقريرية والمباشرة.
أما مفردة "قيمي" فتعني أن غرس القيم في أدب الطفل أمر أساسي، ولا يمكن أن يكون ترفًا في هذا الأدب النوعي، أدب بناء العقل والوجدان للصغار.
ونبدأ بتحليل ورصد القيم في قصة "الوادى العجيب" للأديب عماد حسن الشافعي، رسوم الفنان علي دسوقى، والصادرة مؤخرًا ضمن مطبوعات سلسلة قطر الندى.
تحكي القصة عن الطفل الذي يشاهد والده عالم الجيولوجيا دائمًا مستغرقًا في المطالعة، غارقًا في الكتابة، فورث منه هذا الشغف، ثم يحكي الأب لابنه قصة كفاحه وكيف عمل وهو صغير في محجر، بسبب ظروفه المعيشية القاسية، ورغم صعوبة العمل فقد استمر فيه، بل ومن خلاله أحب الجيولوجيا، ودراسة الصخور. ثم ألتحق بالجامعة ليصبح عالمًا كبيرًا في الجيولوجيا.
ثم تأخذ القصة القارئ بواسطة تقنية الحلم، إلى عالم الأشجار الصغيرة المزهرة والتي حلم بها الطفل بعد أن تصفّح كتابًا في مكتبة أبيه حولها، ومغامرته بجمع بعضها ثم لقائه بمدير مشتل مر به في حلمه، وشراء الرجل باقة الأشجار الصغيرة التي جمعها بمبلغ نقدي كبير، وحواره معه حولها، حتى يستيقظ بطل القصة الصغير في خاتمة القصة.
وقيم القصة التربوية الرئيسة كما أرى تتمثل في غرس محبة "المعرفة"، ووسائل تحصيل هذه المعرفة سواء بقراءة المسطور في الكتب، أو من خلال المشاهدة، والتجربة، أي مطالعة المنظور أيضًا وإعمال ملكة التفكير، واستعمال العقل لتفسير الظواهر الطبيعية.

بطل القصة الصغير في استهلال الحلم، ساق فكرة مهمة حول تدمير البيئة، حتى وجد واديه العجيب

وتثمير قيمة "الملاحظة" وأهميتها في القصة فكرة جيدة وبناءة، تجلت في مواطن عدة منها، وتؤكد ما سبق إليه أنيشتين بأن العلم هو مجرد تنظيم وتهذيب  الملاحظات اليومية. ونشير لبعض من هذه الشواهد:
•    الأب عندما كان غلامًا يعمل في المحجر ص 11: ".. وبهرني كثيرًا منظر الصخور، وشعرت بأنني الفتى الوحيد في العمال الذي يجهد نفسه ويتعب فكره من أجل معرفة أسباب ما صارت إليه ظواهر الطبيعة في الصخور.
•    ثم حديثه حول عن المتحف الطبيعي للجيولوجيا وتقديم لمحة تعريفية عنه للقارئ الصغير صفحة 12، ثم الإشارة إلى تدوينه الملاحظات عما يراه، يقول ص 14: "وبالكراسة التي كنت أدون فيها مشاهداتي وملاحظاتي". 
•    ثم حديث الطفل بطل القصة عندما شاهد في حلمه الشجرة الجميلة القزمة المزهرة، ويتساءل عن تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي تستدعي التفكير، ص 21 "بتصرف": "لكن ما الذي صيرها إلى ما أرى .. صغيرة جدا جدا .. أقل من نصف متر .. لا بد أنه لغز علمي خطير".
•    ثم عندما عرض مدير المشتل على بطل القصة الصغير، شراء باقته التى جمعها من الأشجار القزمة، قال له ص 25: "أنا ما جئت هنا لبيعها يا سيدي، بل لمعرفة اسمها وحقيقتها". فالظمأ إلى المعرفة هو دافعه للتفكير والملاحظة، لذلك كان جيدًا تقديم المعلومة للطفل على لسان مدير المشتل ص 30: "لقد اكتشف اليابانيون هذه الشجيرات في بعض الجبال، وجمعوا الكثير منها ووضعوها في حدائق خاصة، وأصبح لهذا الفن الرفيع عشاق في اليابان وفي كل بلاد العالم". وهنا نجد فكرة تحفيز الطفل وفتح شهيته للمعرفة للتنقيب عن عالم الأشجار الصغيرة.
إضافة للقيمة التربوية لفكرة تحفيز الطفل للتفكير والملاحظة حول الظواهر العجيبة في الطبيعة والتي تثير انتباهه، وصلة هذا بالشأن العلمي، نجد قيمة تربوية مهمة مركزية أخرى تمثلت في التربية على الصمود في مواجهة صعوبات الحياة وعدم الاستسلام لها، وهزيمة الظروف القاسية التي تعترض حياة الإنسان، بالجدية والثبات والعمل، ومقاومة العوارض النفسية المثبطة. 
وهذا يحقق الواقعية في أدب الطفل، حيث يشرح ظروف الحياة وقسوتها، ويستعمل مفردات دالة في حديث الأب في فترة عمله بمحجر، مثل: "خارت قواي / وأحتسي الماء غير البارد / وأتناول بعض الطعام"، كما مثل هذا بأنه عندما قام بتفجير الصخر باستعمال البارود، وكيف تهاوى طائران شهيدان من فصيلة نقار الخشب ميتين، وكيف شعر نحوهما بالشفقة.
لكنه في نفس الوقت يدعو للصمود، ومقاومة الإنهيار، يقول الأب وهو يحكي قصته ص 8 و9: "أدركت حينها يا بني كيف يكد الرجال كل يوم حتى يستطيعوا الحصول على القوت. وبعد ساعة من العمل المتواصل، داهمتني فكرة سوداء، هممت بعدها أن أترك العمل، وأعود إلى حيث كنت أنعم براحة الجسم وهدوء البال، وأحلام اليقظة. لكن وبسرعة صارعت هذه الفكرة، وانتصرت على نفسي، وكانت سلواي في تذليل الصعاب في هذا العمل". هنا نجد الواقعية في الاعتراف بالضعف الإنساني، والتعاطف مع قدرة الثبات في مواجهة هذا الضعف.  

children's literature
نافذة القصة المضيئة 

ويتم الأب قصته لابنه، ص 14: "تعودت الإعتماد على النفس منذ صغري، وكنت أجمع بين الدراسة والعمل، ثم ألتحقت بالجامعة ويداي خشنتان متقرحتان من أثر العمل، وأكملت مسيرتى العلمية في كلية العلوم ...".
وهنا نأتي للفكرة الفنية "المعادل الموضوعي" لتمثل هذه القيم، وكانت عبر الشجرة الصغيرة المزهرة في الوادي العجيب في حلم بطل القصة الصغير، كيف تقاوم ظروفها الصعبة، وتظل مزهرة جميلة رغم ذلك، كأنها الإنسان حين يواجه ظروفًا قاسية فيثبت في مواجهتها، وكيف يصنع كما قال خبراء "جدد حياتك": "أصنع من الليمون المر شرابًا حلوًا"، وكيف تهزم الهزيمة نفسها.
لذلك أرى أن نافذة القصة المضيئة جاءت ص 30 بعد سرد دورة حياة الشجيرة الصغيرة بين نمو وازدهار ثم سقوط اللحاء المحيط بسيقانها، وتمزق أوراقها بفعل السيول، ثم تحترق بالصيف الجاف الحار، ثم تبدأ من جديد: "وهكذا تظل الشجرة اليابسة على حافة الخطر تقاوم الهلاك والظروف القاسية في عناد وتحد من أجل الحياة ومن أجل البقاء. قلت للرجل: هذه الشجرة مثال جيد للصبر على الطبيعة القاسية. قال الرجل: نعم .. وبرغم ذلك تظل الشجرة جميلة ورائعة وناضرة".
وكان التوفيق في عرض قصة الأب المكافح صغيرًا، ثم اختيار الشجيرة الصغيرة التي تقاوم ظروفها القاهرة كما فعل الأب صغيرًا. كما كان لفت الانتباه لقضية "عمالة الأطفال"، وأن ظروفًا قاسية هي التي تقود إليها، لذلك كانت مغامرة الصغير الابن مختلفة عن أبيه وعبر الحلم، ولأن الطفل يجب أن ينال حقوقه من الحياة الكريمة.
بقى أن نشير إلى أن بطل القصة الصغير في استهلال الحلم، ساق فكرة مهمة حول تدمير البيئة، حتى وجد واديه العجيب، يقول ص 18: "ولماذا هذا الكوكب القاحل الأجرد؟! .. وأتلفت في المكان بحثًا عن طائر يصدح، أو عصفور يغرد، او زرع أو شجر، فلا أجد شيئًا. وقلت لنفسي: لا أظن أنني على كوكب غير الأرض، لكن ما الذي حدث؟! هل اندلعت حرب عالمية وقذفت الأرض بقنابل نووية وفيروسية أبادت البشر وأكلت اليابس والأخضر وحولت الأرض إلى صحراء جرداء؟!". 
وهنا طبقًا لوجهة النظر في السرد، وهي هنا وجهة نظر لطفل - كما أرى - أن الطفل قد يعرف أو يسمع عن القنابل النووية أما الفيروسية فقد لا يعرفها عدد من الأطفال. 
كما كان القاص واعيًا بالأثر التربوي لفكرة نبش بطل القصة للوصول لجذور الشجيرات، وخلعها، وهو أمر لا يجب أن ندعو الأطفال لمثله، فأعاد مدير المشتل زرعها في ظروف أمثل بصوبته بمشتله بعدما اشتراها من الطفل بمبلغ 4000 جم، وربما هذا هو السبب الذي جعل القاص يغير من مسار بطل قصته فيرضخ للإغراء المادي رغم أنه كان لا يقصد بيعها سعادة بجمالها وشغفًا بالمعرفة حولها.