فالح عبدالجبار... الحقيقة والوهم

كتب فالح عبدالجبار هي التجسيد لمأزق المثقف العراقي في انه لا يستطيع أن يكون حرا.

بداية، اعترف بأني أقف منبهرا أمام ذكاء فالح عبدالجبار، ورغبته في ان يكون دائما في المقدمة وتحت الأضواء. انه يتمتع بعلو همة واصرار على النجاح لا نراه الاّ عند قليلين جدا. لكني لا استطيع ان اكذّب على نفسي واقول اني وجدت شيئا جديدا أو مهما في كتاباته، بعد ان قرأت له ثلاثة مؤلفات، تعد من بين أبرز ما كتب. وهي "كتاب الدولة.. اللوياثان الجديد" و"العمامة والافندي" و"كتاب اللاّدولة"، بالإضافة الى مقالات منشورة في الصحف وتابعت لقاءات له على بعض الفضائيات.

ارى ان هناك مأزقا يواجه المثقف العراقي بشكل عام، وقليلون جدا استطاعوا تخطيه، وتحديدا المشتغلين منهم في حقول الفكر وعلم الاجتماع وبحوث الدين والسياسة. فهو لا يستطيع ان يكون حرا تماما، كونه مقيّدا بطريقة مركبة، أي اما ان يخشى ردة فعل السلطات او سلطة المجتمع التي تكون عادة اشرس واقوى عند تناوله أمورا حساسة! واما ان يكون هو نفسه مقيّد بأفكار وقناعات وعلاقات خاصة لا يستطيع التحرر من سطوتها، او ان طبيعة مصالحه تجعله امام خيارين، اما ان يجامل ويفقد الموضوعية ليديم تلك العلاقات، او يقول الحقيقة ويختار القطيعة!

في اعتقادي ان فالح عبدالجبار كان مقيّدا بأكثر من قيد من تلك القيود، باستثناء قيد النظم السياسية التي حكمت العراق طيلة العقود الماضية والتي عبّر عن آرائه فيها بحرية وقسوة ايضا، كونه يعيش خارج العراق! ففي كتبه الثلاثة وفي مقدمتها "كتاب الدولة.. اللوياثان الجديد" لم اجد حفريات عميقة ودقيقة في قضايا سياسية ودولتية مهمة كانت السبب في صنع المصير الحالي للعراق، مثل الموقع الجيوسياسي ولعبة التوازن الدولي وصراع الاقطاب الكبيرة (تحديدا اثناء الحرب الباردة) الذي تسبب باختلاق مشاكل للدولة العراقية لم يكن بمستطاع القائمين عليها مواجهتها بغير الادوات التقليدية المتاحة لعدم امتلاكهم اذرع استراتيجية مؤثرة، فتعاملوا معها ميدانيا، ما تسبب بإرهاق الدولة والشعب وانتهت الى فجائع متوالية. فالقضية الكردية، مثلا، ظل عبدالجبار يتعامل معها انطلاقا من تداعياتها الميدانية او من ردود الفعل المتبادلة بين قياداتها وبين قيادات الدولة المركزية المتعاقبة، فبدا كما لو انه معلّق على الاحداث اكثر مما هو باحث ومفكر يشخّص الخطأ ويتعقب جذوره او يشير اليه في الاقل، ولم يتوقف عند مدخلاتها بما يجعل المخرجات، وقبلها التداعيات، خاضعة لتحليل منطقي ومنصف. ويعود ذلك الى انه يعرف خطأ الكثير من القرارات التي اتخذتها القيادات الكردية بعد العام 1961 وخلفية قرار مواجهتها غير المبررة، لاسيما للجمهورية (القاسمية) التي احتضنت مصطفى البارزاني وقضية الشعب الكردي بوصفه "قومية متمايزة" داخل العراق، بعد ثورة 14 تموز 1958، حيث كان منفيا بعد احداث مهاباد الشهيرة في ايران العام 1946 ومطاردا من قبل الشاه وحكومات العهد الملكي العراقي معا. لكن البارزاني بعد عودته الى العراق بمدة قصيرة تحالف مع الشاه وامثاله واعداء العراق الجمهوري وقتذاك، تحت ضغط وعود تبيّن له وللجميع لاحقا انها خادعة، الامر الذي تسبب في تداعيات مريرة انتهت الى كوارث حلّت بالعراق وكردستان معا، وأسست لقادم اسوأ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وسبب احجام فالح عبدالجبار عن ذكر تلك الوقائع والخوض فيها بشكل يناسب مستوى المفكر او عالم الاجتماع، يعود لكونه يرتبط بعلاقات طيبة مع الفضاء الثقافسياسي لتلك القيادات محليا وخارجيا، ولخشيته من ردود فعل سلبية لا يريد ان يتحمل نتائجها.

الشيء الآخر، اني لم اجد له قراءة علمية متفحصة وعميقة تتجاوز المواقف السياسية العابرة والعاطفية، لأزمة الحزب الشيوعي العراقي، ومن وقف ضد ادماجه في العمل السياسي قبل العام 1945 ومن حيّده بعده! اي ان الامر يحتاج الى قراءة عميقة ومعرفة صراع الاقطاب الدولية وكيف اصبح الشيوعيون ضحية لها بموافقة السوفييت انفسهم، وفي هذا يطول الحديث ويغدو ذا شجون! فالوعي السياسي المشفوع بخارطة معلومات رصينة (ثقافة)، أمر لا بد منه لأي متصدّ لقضايا كبرى، وهو ما لم الحظه في الكتاب المشار اليه، ووجدت معلومات اغلبها معروف وربما اعدّها مكتبه الخاص من خلال الاتصالات التي باتت بفضل التقنيات الالكترونية سهلة جدا، واعاد منتجتها بشكل لا يخلو من ذكاء، مع اني لم اجد اقواس التنصيص وحدودها في منقولاته التي يكتفي بالإشارة الى المصدر في ذيلها، وهي على كثرتها لا تكاد تبقى له شيئا خاصا به!

الامر لا يختلف مع كتاب "العمامة والافندي" الذي وجدته يفتقر الى تفكيك الظواهر الدينية الشعبوية الدخيلة على ثقافات الطوائف العراقية ودور الصراعات الاقليمية المعروفة في صناعتها او ادامة زخمها، تحت ضغط الظروف العاصفة والمرعبة التي مرّ بها سكان العراق قبل انهيار الدولة العباسية وبعدها، ومدى تأثيرها على مزاج العراقيين وصياغة تفكيرهم وسط تلك العتمة الطويلة، حيث تأسس خلالها مخيال ديني شعبوي يدعو للتوقف عنده وفحص مرجعياته السياسية وكيفية صناعته (ثقافيا) واستثماره في لعبة الصراع ذاك، لاسيما بعد تكرّسه في قرون الصراع العثماني الصفوي واستخدامه في تكتيكاتهما ضد بعضهما. ولم يبين بشكل واضح موقف الدولة العراقية الحديثة وجهدها الواضح في تخفيف تلك التركة، ومحاولاتها بناء مجتمع اكثر تقبلا لبعضه ثقافيا، لاسيما انه منسجم مع بعضه اجتماعيا، بحكم مرجعياته القبلية والعشائرية المتداخلة على الرغم من الاختلافات المذهبية، ومن ثم ردود الفعل الاقليمية على تلك المحاولات وكيفية استثمارها سياسيا والنتائج المترتبة التي مازلنا نتخبط داخلها. الموضوع غني جدا، ولعب دورا كبيرا في الواقع السياسي العراقي في العقود الاخيرة أو أريد له ان يكون رافعة لمشروع سياسي دولي ابعد واخطر. التفصيلات بهذا الشأن محرجة لكنها بالنسبة لـ"عالم اجتماع" يكتب مادته وهو خارج العراق ضرورية جدا لكي يجعل من كتابه وثيقة علمية للتاريخ. لكننا لم نجد ذلك وبقي الجهد الذي جاء في سياق هذه الموضوعة لا يتجاوز في اغلبه معلومات ارشيفية عن نشوء الاحزاب الدينية وصراعاتها السياسية مع السلطات، وقد تحصّلت تلك المعلومات من الاحزاب نفسها او من مصادر معروفة. والسؤال الذي يطرح نفسه، هو ما الذي تبقى لعالم اجتماع ومفكر يتناول العراق وهو يتجاوز هذه الحقائق الكبرى التي صنعت مصيره؟ لقد وجدته في اغلب ما قرأت له يعلق على الاحداث لكن بنبرة انحياز واضحة وبعيدة عن الموضوعية.

اما "كتاب اللاّدولة" فلم اجد فيه اكثر من متابعة صحفية مطولة.. لما جرى قبيل الاحتلال وبعده، ولم ينطو على جهد فكري او اضافة مهمة.

الخلاصة

* تخلى الاتحاد السوفييتي عن الحزب الشيوعي العراق في مؤتمر القرم العام 1945 الذي ضم الرئيس الاميركي روزفلت والزعيم السوفييتي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، بعد ان تقاسم هؤلاء الكبار النفوذ في العالم، قبيل هجومهم الكاسح للإطاحة بالنازية الألمانية والفاشية اليابانية، وقد كان العراق وايران وبقية الشرق الاوسط من حصة الأميركان والغرب، بموافقة السوفييت، فحكموا على الحزبين الشيوعيين في العراق وايران (لحساسية موقع هذين البلدين) بالإعدام السياسي ومنعاهما من اي تحرك باتجاه السلطة، لان ذلك يتسبب بمواجهة مع اميركا ومعسكرها، كون الاحزاب الشيوعية عبارة عن منظومة عالمية يقودها السوفييت واي تحرك من اي حزب يجب ان يعود به الى مرجعيته العليا، لاسيما في القضايا ذات الطابع الاستراتيجي الدولي.

في ستينيات القرن الماضي، تمرد بعض الشيوعيين العراقيين على مرجعيتهم السوفييتية، والتحقوا بالصين الماوية، المؤمنة بمبدأ الكفاح المسلح ضد الرأسمالية وانتزاع السلطة بالقوة، بعد ان يأسوا من السوفييت، وجاء هذا بعد تطور الخلاف السوفييتي - الصيني الشهير في اعقاب الحرب الكورية التي كانت الصين وراءها اصلا، اذ دفعوا بالزعيم الكوري الشمالي كيم ايل سونغ ودعموه بقوة للهجوم على الجنوب الكوري وضمه وتوحيد البلاد تحت العلم الشيوعي، حيث كان تحت سيطرة الاميركان، وحصل هذا من دون علم السوفييت او التنسيق معهم! فكانت فاجعة كبرى انتهت بإبقاء الحد الفاصل بين الشطرين مكانه ولم يتزحزح مترا واحدا! وقد ايقنت الصين من خطل سياستها السابقة وفهمت اللعبة الدولية بعد رحيل ماو تسي تونغ وصارت تتعامل بواقعية لاحقا. الخلاف الشيوعي العراقي او الانشقاق تسبب بظهور القيادة المركزية بديلا للجنة المركزية، لكن هذه التجربة فشلت تماما لاصطدامها بواقع دولي واقليمي رافض بقوة.

* لم يتوقف فالح عبدالجبار عند المدخلات الكبرى التي حصلت بعد الحرب العالمية الاولى، والتي تأسست عليها دول منطقتنا، واهمها معاهدتي سيفر ولوزان وانقلاب حوت في ايران العام 1921 وسقوط الخلافة العثمانية على يد اتاتورك العام 1923، وما حصل لاحقا من تداعيات في تركيا التي شهدت ثلاث ثورات كردية، سقط فيها عشرات الالاف من الضحايا، وكذلك ايران التي قمعت فيها محاولات الكرد من خلال ثورتين في العشرينيات والاربعينيات، للحصول على حقوقهم الثقافية قبل السياسية، حيث لعبة الاستقطاب في الحرب الباردة تجبّ خطايا الانظمة الموالية.

* لم يتطرق الى موقف الغرب من العراق الجمهوري الذي بات قريبا من المعسكر الاشتراكي وما جرّه ذلك على العراق من ويلات، وقف الغرب وراءها لتأديبه واعادته الى الحاضنة الغربية ولو على مراحل، امتدت لأكثر من اربعة عقود! وانما انغمس في تفاصيل الاحداث وراح يردها كلها الى سوء الادارة او النظم الدكتاتورية، وهذه اكبر عملية تضليل ثقافي تمارس بطريقة لا تخلو من قصدية مسبقة! فبدا في تحليلاته السطحية محاكيا لموقف الغرب من الاحداث التي حصلت في العراق والتي صنعت لتكون اداة إدانة، راح يكرسها ويتماهى معها، اذ لم نجد له موقف واضح من تداعيات نشاط الاسلام السياسي على وحدة بلد متعدد الاديان والمذاهب، وانما راح يتعامل مع ردود فعل الدولة بطريقة اعلامية لا تنطوي على اية قيمة تحليلية عميقة تستشرف مستقبل البلاد فيما لو اصبح تحت الحكم الديني في بلد متعدد دينيا ومذهبيا.

* لم يتحدث عن ايجابيات الدولة في العهد الجمهوري، واقتصر كلامه على ادانتها على امور اجرائية، تتعلق بشكل النظام والاداء الميداني للسلطات وغير ذلك من الامور غير الجوهرية، وما سببته من قطيعة مع مشروع بناء الدولة الذي بدأ في العهد الملكي، حسب زعمه، ولم يتوقف عند الاحداث الاقليمية الكبيرة التي غيرت وجهة المنطقة، لاسيما بعد العام 1979 وكيفية استثمار ثقافة الاسلام السياسي ومشروعه من قبل الغرب. وسفّه الجهد الجمعي العراقي في بناء الدولة الجمهورية والدفاع عنها ايضا، بعد ان وضعه كله في كيس الحكومات الدكتاتورية التي رآها سبب كل الخراب. وبهذه رسالة بعيدة تهدف الى تهيئة العقل الجمعي لثقافة سياسية جعل منها رسالته الجديدة بعد ان اصبح من دعاة الليبرالية ومن المروجين لها على حساب اليسار الذي كان ثقافة المرحلة السابقة وما اعطته النظم اليسارية من دفعة كبيرة في حياة الشعوب، على الرغم من اخفاقاتها في مجالات اخرى، اي انه لم ينقد المرحلة تلك بعلمية، تمهد لثقافة ليبرالية تستفيد من الاخطاء السابقة، وانما شطب عليها وعلى جهد الشعوب فيها ليطمئن في خندقه الثقافي الجديد.

باختصار لم اجد شيئا جديدا حقا في كتب فالح عبدالجبار الثلاثة هذه، لكنها قد تكون مهمة لقارئ لم يقرأ قبلها شيئا مهما! ومرة اخرى اقول ان الرجل مجتهد ويمتلك اصرارا مدهشا على ان يكون تحت الاضواء وفي المقدمة دائما، وربما كان هذا هو السبب الذي جعله يتقلب بين الافكار المختلفة مستعينا بلغة اجنبية ورصيد ممتاز من المصطلحات والكلمات التي تتوافق مع الافكار الشمولية التي كان يتبناها من قبل، مثلما صارت تتوافق (بعد التعديل) مع الديمقراطية أيضا.