فلسطين التي يريدونها وقد ضاعت

تم تذويب فلسطين عبر الزمن. الجغرافيا والتاريخ تؤكدان ذلك.

هل ستُقام دولة فلسطين؟ ولكن أين ستُقام تلك الدولة؟ لا فرق. سؤال يسبق الآخر أم يلحق به. فالنتيجة واحدة. إذا كان الجواب بـ"نعم" فإن سخرية الجغرافيا ستعطل تلك الـ"نعم" وإذا كان الجواب بـ"لا" فإن قسوة التاريخ ستحول منطقة مهمة في العالم إلى ما يشبه المتاهة التي تصول فيها الميليشيات والمافيات والأسلحة والمخدرات بما يجعلها مصدر صداع مستمر للعالم.

"دولة فلسطين" كانت قبل أكثر من سبعين سنة موجودة على الأرض التي أسمها فلسطين. تلك الأرض التي تمتد من نهر الاردن إلى البحر الميت. "من النهر إلى البحر" شعار رفعته المنظمات الصهيونية ومن ثم تبنته المنظمات الفلسطينية. كل واحدة منهما تفكر في حلم يقع على الأرض نفسها. أما حين وقفت بريطانيا وهي التي اعتبرت أرض فلسطين جزءا من من ممتلكاتها من الإرث العثماني فإنها انحازت إلى الطرف الصهيوني لتنفذ وعد وزير خارجيتها بلفور بإقامة وطن قومي لليهود. وبذلك وهب مَن لا يملك لمَن لا يستحق. هو ما لم يصدقه العرب حين وقوعه.

لم يعترف العرب بالقرارات الدولية التي هيأت أرضية قانونية لتقسيم أرض فلسطين التاريخية فحصلت إسرائيل على الاعتراف الدولي كونها دولة مستقلة فيما توزع الجزء الذي كان مخصصا لقيام دولة مستقلة للفلسطينيين بين الدول العربية. كل دولة صارت تدير الجزء الذي ألحق بها على أساس الوصاية المؤقتة. أما الحكمة من وراء ذلك فقد اتضحت بعد عقدين حين تم الحاق تلك الأجزاء بالدولة العبرية بعد حرب خاطفة استطاعت إسرائيل فيها أن تفضح كذبة التفوق العربي وتشطب على ما تبقى من أحلام السيادة الفلسطينية.

بغض النظر عن نصر العبور في تشرين 1973 الذي كان نصرا مصريا لم تدخل فلسطين في حساباته النهائية فإن الفلسطينيين بنضالهم الوطني المسلح هم الذين أجبروا العالم على الاعتراف بهم طرفا في قضيتهم. حين وقف ياسر عرفات على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة فإن الفلسطيني انتقل من درجة الضحية التي يشفق الآخرون عليها بسبب ما تعرضت إليه من مآس إلى درجة صاحب القضية الذي أثبت أنه يملك اللغة التي تناسب حقه في أن يقيم دولته المستقلة وهو قادر على أن يكون طرفا في مفاوضات تبين في ما بعد أنها لم تكن إلا مكيدة.

بعد اتفاقية أوسلو أُقتيد الفلسطينيون إلى بيت الطاعة. ضاعت فلسطين التاريخية وبعدها ضاعت فلسطين ما بعد قرار التقسيم. ما استلمته السلطة الفلسطينية في رام الله لم يكن سوى شذرات من أرض فلسطين، لا يمكن أن تُقام عليها دولة مستقلة حتى لو نجحت مفاوضات الحل الأخير. لم يمر الزمن لصالح الفلسطينيين الذين لم يشكل الزمن بالنسبة لهم عنصرا مهما. تلك عادة عربية اكتسبها الفلسطينيون وكانوا أوفياء لها فصارت المسافة بين طريقتهم في التفكير والواقع تتسع كلما مضى الوقت.

بعد مغامرة السابع من اكتوبر توهم البعض أن حلم الدولة الفلسطينية سيتحقق. أما كيف ومتى وعلى أية أرض، فعليك أن لا تسأل وإلا أصبحت من أعداء القضية. الأسوأ أن تسأل "أي قضية؟" ليست هناك سوى قضية واحدة. ولكن حركة حماس وهي التي قامت بتلك المغامرة لها أجندتها التي لا تدخل ضمن المشروع الوطني الفلسطيني الذي جرى تدميره. فبعد أن تم تغييب العرب عن القضية الفلسطينية حين قرر الفلسطينيون أن يكونوا سادة القرار في ما يتعلق بقضيتهم جاءت حركة حماس وألقت بغزة في الحضن الإيراني. وإيران تتفوق على إسرائيل في عدائها للعرب.

لم يسأل أحد من المتفائلين نفسه "ما الذي بقي من فلسطين على الأرض؟" لقد تم تذويب فلسطين عبر الزمن. الجغرافيا والتاريخ تؤكدان ذلك. أما كان أن تقوم دولة فلسطين في أوقات سابقة؟ يمكن أن هناك خداع عالمي لم يتعامل معه العرب بذكاء. فكرة الفلسطينيين عن قضيتهم ظلت مغلقة على أفكارهم عنها. ذلك ما صار عنوانا لقشل لا يُراد الإفصاح عنه. سيُصدم الفلسطينيون دائما أنه ليست هناك أرض تقام عليها الدولة الفلسطينية.

هل خدع الفلسطينيون أنفسهم بعد أن خدعهم العالم؟ ذلك سؤال فيه الكثير من القسوة. وهي قسوة شكلت إطارا لمعنى علاقة الفلسطينيين بالعالم الذي فرض عليهم وضعا رفضوه حين فرضوا عليه وضعا صار بمثابة واقعا. لقد انتقل الفلسطيني في خيال العالم من اسطورته إلى الحقيقة التي صار من خلالها رمزا لعصر جديد.