فوزي عيسى آخر القابضين على الجمر

والشعر عندي حالة خاصة من العشق والـذوبان أتهيأ للقائه بأوردتي وطقوسي.
يا رفيقى طائرُ الأشواق ما عاد يُغردْ / كلُّ ما غنَّاهُ بالأمس ِتلاشى.. وتبدَّدْ 
حياتنا التي أصبحت مكررة الوجوه والأشكال في كل وقت وفي كل حين

للشعر عبقه من الوريد إلى الوريد، ومهما تعددت براعات الإنسان واتجاهاته، فإنه يظل دائما عالقا بالشعر، وعالقا به الشعر، بل إنه يودُّ دائما أن يكون اسمه لاحقا للقب الشاعر منه لأي لقب آخر؛ حتى ولو كان ذلك اللقب هو لقب الأستاذية. 
ذلك فوزي عيسى الناقد والأكاديمي المصري أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، والناقد المعروف الذي يقدم لنا تجربة شعرية متفردة في عشرة دواوين؛ هي أعماله الكاملة التي حرص على أن تكون كما مر بها في سني عمره، وما بين ديوانه الأول "أحبك رغم أحزاني 1984" والذي تغلب عليه القصيدة الخليلية الموزونة المقفاة، والتي يقول عنها: "والشعر عندي حالة خاصة من العشق والـذوبان أتهيأ للقائه بأوردتي وطقوسي.. ولسـت أنحاز إلى شكل بعينه وإن كنت أجد نفسي في قصيدة التفعيلة، ففي فضاءاتها أحلق بحريتي، وأجــد متسعا للبوح والتدفق والتجديد".
لقد آثر الشاعر فوزي عيسى أن يقدم لنا هذه التجربة بكل ما فيها، وفي حالاتها المختلفة، فهو هو في كل حالاته سواء كتب القصيدة الخليلية، أو كتب قصيدة التفعيلة؛ لأنه يحمل فيها كلها روحه الشاعرة، وخياله الجامح، في بواكير وميعة صباه، أو في فتوته الشعرية؛ متكئا على سمات وخصائص تميز شعره، وتجعل له سمتا خاصا، وبصمة واضحة لا يكاد يعرفها كثيرون في عالم شعرنا العربي؛ لأنهم ما عرفوا إلا فوزي عيسى الناقد والأكاديمي.

رحلة شعرية غنية بأساليبها وتراكيبها الدلالية والجمالية والمعرفية، والتي ما زلنا ننتظر لها مزيدا من العطاء؛ مزيدا من الإبداع؛ مزيدا من الألق

ويلخص هو هذه السمات والخصائص التعبيرية بقوله: "وكنت حريصا على أن يكـون لي صوتي الخاص بعيداً عن التقليد، أما وسائلي التعبيريـة فتتمثل في: البنية المكثفة.. الرمز الشفـيـف.. التعبـيـر بالصورة.. السعي إلـى بناء درامى يعتمد على تعدد الأصوات والأبنيـة الحواريـة.. قصيدة القناع.. التناص.. استحضار التـراث.. الحضور الأندلسي المكثف في سياق الإسقاط ووضـع الماضـي إزاء الحاضر..".
فهو ذلك الشاعر الذي يقاسي آلام الوحدة، ويفقد كل متعة وغناء بعد أن تبدد كل شيء؛ مستخدما مطلعا تقليديا في القصيدة العربية، وهو مخاطبة الرفيق والصديق والحبيبة: 
يا رفيقى 
طائرُ الأشواق
ما عاد يُغردْ
كلُّ ما غنَّاهُ بالأمس ِ
تلاشى.. وتبدَّدْ 
أصبح الآن وحيدا 
شارد الخطوة.. مُكمدْ
تائها.. يبحث عن إلفٍ
كبدر الـتِّـمِّ أوحـدْ.
ومن قصيدة "التتار يجتاحون بغداد..." من ديوانه "آخر القابضين على الجمر" يقول:
وحده، لصُّ بغدادَ،  
يمرحُ فى طرقاتِ المدينةِ، 
فى حُللِ الموتِ،
يصعدُ فوق تلال الجماجمِ، 
يشربُ من ثقب جمجمةٍ لوَّثتها يداهُ، 
خمورَ انتصاراتهِ، 
ويُزيِّنُ شاراتهِ، 
بجماجمِ أطفالِ بغدادَ، 
يسبحُ فى دمهمْ، 
(يستحيلُ الفراتُ دما) 
أي هذا الجنون الذي يجتاح بغداد تحت وطأة الظلم والبطش والغطرسة التي لا تكاد تنفك عن بلد حتى تصل بلدا آخر:
ويعاود رسمَ خرِيطتها، 
حيث يطبعُ نجمةَ داودَ
 في قلبِ رايتِـهـا، 
ليقيم بها أورشليمَ – 
(من النيل حتى الفراتِ) 
وجندُ المماليكِ فى غيَّهمْ سادرونْ 
الجنونُ.. الجنونْ.. 
تلك بغدادُ تشربُ كأسَ المنونْ.
فما بين حلم أندلسي، وبكاء فلسطين؛ ننوح على بغداد الجريحة؛ على بغداد القريحة والشعر والحاضرة، وطعنة الخونة في الخاصرة؛ إنه الشعر وفضاءاته ودلالاته، وتراكيبه الجمالية والأسلوبية التي تنماز بها قصيدة الشاعر فوزي عيسى في المزاوجة بين الحالة الخاصة للشاعر والحالة العامة التي نحياها جميعا، فتقض مضاجعنا، لنستيقظ على هذا الهوان الذي يلطمنا على خدودنا، ويطعننا في عمق الآه من قلوبنا؛ ذلك الجرح النازف، فبدلا من فلسطين وحدها؛ أصبحنا مطعونين في صدورنا وخصورنا وظهورنا من القدس إلى بغداد، ومن بغداد إلى دمشق، ومن دمشق إلى صنعاء.آآآآآآآه أيهذا الوجع الساكن فينا؛ ما أشد ألمه حين يسكن روح شاعر؛ يضربه الجنون، أو يضرب الجنون به. 
نحن هنا لسنا بصدد قراءة تحليلة، ولا دراسة متعمقة فاحصة لشعر شاعر في قامة فوزي عيسى؛ لكنها سياحة وسباحة عجلى بين هذه الدواوين التي تتميز بغناها المفرط روحا وشعرا وفكرا وفنا لرجل يستحق شعره كثيرا من الدراسات المتعمقة التي تسبر أغواره، وتستقصي ظلاله الوارفة في عالم الشعر، وعبقرية النفس الشعري فـ:
القدس تبكي و"بيت الشرق" ينتحبُ ** فأين أنتمْ بحق  الله  يا عربُ؟ 
هنتمْ، فما عاد يخشى رعدَكم أحدٌ ** فالحربُ عندكمُ المذياعُ والخُطب
خدعتمونا بأوهام السلام فهل ** يسعى إلى السلم من خانوا ومن سلبوا
هم دنسوا أرضنا.. اغتالوا كرامتنا ** وشرّدوا الأبرياءَ العُـزْلَ واغتصبـوا 

Poetry
بقايا طيوب

وما بين القصيدة الخليلية، وبين قصيدة التفعيلة؛ يحملنا جنون الشعر، أو شعر الجنون إلى قضايا الشاعر المختلفة التي أصبحت مضامين لموضوعاته الشعرية التي تؤكد أنه ليس بمعزل عن كل ما يعتمل به قلب الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج؛ ذلك القلب الذي يعلو نبضه وصراخه بكل ما يوجعه، ويؤلمه من قضايا أمته.
ومن قصيدة "السيرك" مستخدما هذه اللفظة العامية الدارجة التي تعبر عن تلك الحركات البهلوانية التي أصبحت تميز المتلونين والمخادعين والمنافقين أكثر مما تميز به لاعبي السيرك؛ يقول فوزي عيسى:
ومن عجيب ما رأيتُ ما يدعونه بــــ" السيركْ "
نقدتُهم دريهماتٍ كي أرى ما لم تر العينانْ 
من شقلباظٍ فوق رأسه يسيرْ
ولاعبٍ بالنقرزانْ
............
وترقص الأفاعي 
رقصة الجنونْ
وكم وكم مهرّج بزيّه المألوفْ 
بين الصفوف ساعياً يطوفْ 
ومضحكٍ وبهلوانْ 
ومتقنٍ للفهلوه.
هذه هي حياتنا التي أصبحت مكررة الوجوه والأشكال في كل وقت وفي كل حين؛ لنجد في ديوانه "نقشٌ أخيرٌ" الصادر في 2016 جنونا مختلفا؛ لا بدَّ للشاعر أن يعيشه في قصيدته "بقايا طيوب" حين يقول:
أنا في خريف الربيع 
وأنت الربيع 
فما أبعد الشاطئين 
فهل تملكين الجسارة 
كي تبحري 
والعواصف مجنونة 
وأنا زورقي تائه 
والمدى غائم 
والسماء ملبدة بالغيوم ؟ 
هل لديك الجسارة 
كي تمنحي من شذاك 
وصفو سحابك 
ما ينبت العشب 
في الصخر 
ما يجعل الغيم صحوا 
وينسخ آية هذا الظلام 
ويغزو السديم؟
إنه لا شكَّ ذلك الأمل المراوغ المباغت للروح الشفيفة المحبة للناس والحياة في "عشرة دواوين هـى (أحبك رغم أحزانى 1984 – لدىّ أقوال أخرى 1990 – ثقـوب فى ذاكـرة النـهـر 1996 – لـغة بلون الماء 2002 – آخر القابضين على الجمر 2006 – مشاهد من احتفالية الخسوف 2012- مشاهد من رحلة ابن بطوطة 2012 – بعد أن تاه الدليل 2013- من قصائد العشق لمولانا جلال الدين الرومي 2015- نقش أخير 2016)" هذه هي الرحلة الشعرية الغنية بأساليبها وتراكيبها الدلالية والجمالية والمعرفية، والتي ما زلنا ننتظر لها مزيدا من العطاء؛ مزيدا من الإبداع؛ مزيدا من الألق.
إنها روح فوزي عيسى الشاعر؛ فوزي عيسى الإنسان.