'في حب تودا' يضع سينما الفن الشعبي المغربي في مواجهة الاستغلال التجاري

المخرج المغربي نبيل عيوش ينسج رحلة مغنية العيطة بين الشجن والنجاة في دراما بصرية وإنسانية بعين ناقدة وروح تأملية.

تدور أحداث الفيلم السينمائي "في حب تودا" للمخرج نبيل عيوش حول "تودا"، مغنية شابة مطلقة تربي ابنها الأصم ياسين بمفردها في بلدة صغيرة، وتسعى لتحقيق حلمها بأن تصبح فنانة شعبية مغربية من خلال غناء العيطة، والفن التقليدي الذي يعبر عن مشاعر النساء، إذ تواجه تحديات بسبب تفضيل جمهورها للترفيه، فتقرر الانتقال إلى الدار البيضاء لتحقيق الشهرة وحياة أفضل لابنها.

الفيلم من سيناريو نبيل عيوش ومريم التوزاني، وبطولة كل من نسرين الراضي في دور "تودا"، جود الشاميحي "ياسين"، جليلة التلمسي "رقية"، مصطفى بوتنكيت "عازف الكمان"، لحسن رزوقي "العاشق"، عبد اللطيف شوقي "مدير بار أريزونا"، معاذ لصمك "البارمان"، وخليل أوباعقا "مهدي".

يتألق السيناريو فنيًا من خلال بنية سردية محكمة تجمع بين الإيقاع الدرامي والسرد المتزامن ،في نسج قصة "تودا" التي تعكس تناقضات الواقع المغربي بأسلوب بصري وسمعي متكامل، وتتنوع اللقطات بين المشاهد الحميمية التي تركز على تعابير الشخصيات وتلك الواسعة التي تصور الأماكن الليلية بأجوائها المزدحمة، مع إضاءة تبرز التباين بين البهجة الخارجية والشجن الداخلي، بينما يتسم الحوار بالطبيعية والدقة،  ويبرز لغة الشارع المغربي ويحمل طابعًا يتناسب مع شخصيات واقعية، خاصة "تودا" التي يضفي عليها أداء نسرين الراضي صدقًا وعمقًا عاطفيًا، وتشكل الموسيقى، سواء "العيطة" بكلماتها الشجية أو الإيقاعات الشعبية الراقصة، العمود الفقري للفيلم، إذ تدعم الإيقاع السردي وتعزز التجربة الحسية، كما تضيف المؤثرات الصوتية والبصرية، مثل صدى الكؤوس ووميض الأضواء، طبقة إضافية من الواقعية.

ويكشف السيناريو اجتماعيًا عن الواقع القاسي للأوساط الليلية في المغرب، إذ تتحول المغنيات إلى أدوات ترفيه في بيئة يهيمن عليها التواطؤ بين المرتادين والمنظمين والعاملين، وتجسد "تودا" روح المقاومة ضد التحرشات والاستغلال الجسدي، حينما تُعامل كسلعة أكثر منها فنانة، ويبين تكوين اللقطات ديناميكيات السلطة الاقتصادية والاجتماعية، إذ يفرض السوق الترفيهي قواعده الصارمة على المؤديات،  ليحد من حريتهن وطموحاتهن، وهنا تظهر الدار البيضاء كرمز للحلم بالتحرر والنجاح، لكنها سرعان ما تكشف عن وجهها القاسي، عندما تبقى العوائق الاجتماعية والاقتصادية قائمة بغض النظر عن تغير المكان، كما تركو اللقطات على قضايا مثل الاغتصاب الجماعي الذي تعرضت له إحدى الشخصيات، ليتبين حجم العنف البنيوي ضد النساء في هذه البيئات، ويؤكد على صعوبة تحقيق الذات في ظل هيمنة النزوات والمصالح المادية.

ويعبر السيناريو ثقافيًا عن صراع عميق بين العيطة كفن شعبي يحمل شجنًا وتمردًا وتراثًا إنسانيًا، والموسيقى الشعبية التي تلبي رغبات الجمهور السطحية في الفرح والرقص، ويبرز هذا التقابل توترًا بين الأصالة الثقافية والاستهلاك التجاري، عندما تواجه "تودا" تهميشًا لتطلعاتها الفنية في بيئات تهيمن عليها الرغبات المادية والتوقعات النمطية من المغنيات، وتبرز متتاليات الشماهد تضارب الهويات في المجتمع المغربي من خلال مشاهد رمزية، مثل تقاطع صوت الأذان مع تمارين العيطة، كتراث حي يحمل ذاكرة جماعية وصوتًا للتمرد، لكنه يصارع من أجل البقاء في ظل ضغوط الثقافة الحديثة وسيطرة السوق. وتضيف مشاهد مثل تأمل "تودا" في أحلامها وسط الملاهي الليلية طبقة من التعقيد الثقافي، خاصة عندما تظهر كحاملة لتراث يتجاوز الزمن، لكنه يظل مهددًا بالاندثار أو التشويه في مواجهة العولمة والاستهلاك.

وتلعب نسرين الراضي في فيلم شخصية "تودا" بأداء تمثيلي بارز،  حينما تعبر عن صراعها الداخلي  وبين شغفها بفن العيطة ومواجهتها لواقع الملاهي الليلية القاسي، وتبرز قدرتها على التعبير عن الشجن من خلال غنائها وحركاتها، بينما تنقل عبر تعابير وجهها ولغة جسدها تمرد "تودا" ضد التحرشات وضعفها كضحية للظروف، وهنا تتألق نسرين الراضي في المشاهد العاطفية، كبكائها عند سماع همهمات طفلها الأبكم، كما تكتمل الصورة بأداءات الشخصيات المساندة، التي تعزز التباين بين تودا وبيئتها الاستغلالية، ليصبح الأداء التمثيلي ركيزة أساسية في نقل رسائل الفيلم النقدية.

وينسج  المخرج المغربي نبيل عيوش رؤية بصرية فنية وسردية أدبية متكاملة تبرز التناقضات الاجتماعية والثقافية في المغرب من خلال موضوع فن العيطة، إذ يعتمد على تصوير سينمائي  قائم على التباين بين الأماكن، خاصة  في المشاهد التي تظهر الملاهي الليلية في المدينة الصغيرة بإضاءة خافتة وألوان مكتومة، كما تتسم مشاهد الدار البيضاء باتساع بصري وإضاءة أكثر إشراقًا، لكن  المخرج نبيل عيوش يستخدم زوايا التصوير لإبراز عزلة "تودا" وسط هذا الاتساع، واستعمل اللقطات المقربة لتعابير وجه نسرين الراضي أثناء الغناء أو مواجهة التحرشات تضفي عمقًا عاطفيًا، وتجعل المشاهد شريكًا في صراعها الداخلي، بينما تعكس الرمزية البصرية، مثل مشهد المصعد الصاعد ثم الهابط، ومصير "تودا" المرتبط برفضها الخضوع للاستغلال.

ويوازن نبيل عيوش بين الإيقاع الدرامي والتأملي، عندما يبدأ السرد بتقديم "تودا" في بيئتها المحلية، إذ يصور الملاهي الليلية كفضاءات استهلاكية تبتلع الفن والإنسانية، ثم يتطور الإيقاع مع انتقالها إلى الدار البيضاء، حينما تتصاعد التوترات مع مواجهتها لتوقعات مماثلة تحت قناع الرقي، ويتخلل الفيلم لحظات تأملية، مثل مشهد تودا وهي تستمع إلى همهمات طفلها الأبكم عبر الهاتف، وتتيح للمشاهد استيعاب الأبعاد الإنسانية للقصة. وهذا التوازن يعزز من تأثير المشاهد الدرامية القاسية، كالاغتصاب الجماعي، التي يقدمها عيوش بأسلوب غير مبتذل، معتمدًا على التلميح بدلاً من العرض الصريح للحفاظ على كرامة الشخصية وتركيز المشاهد على تداعيات الحدث.

ويدمج المخرج عناصر ثقافية ودينية في إخراجه لذها الفيلم ليخلق حوارًا بصريًا وسمعيًا بين القديم والحديث، وبين الروحي والمادي،ـ ويبرز ذلك في مشهد يجمع بين تمارين العيطة وصوت الأذان، ليبين التداخل الصوتي صراع "تودا" بين هويتها الفنية والبيئة المحيطة، كما يستخدم الإطار البصري لمسجد الحسن الثاني المطل على النوادي الليلية الفارهة لييبين  التناقض بين القيم الروحية والاستهلاكية، وهذا التكامل بين الصورة والصوت يعزز من قدرة الفيلم على استفزاز التأمل،  ويدفع المشاهد للتفكير في مكانة الفن الشعبي في مجتمع يحول الفنان إلى سلعة، ومن خلال هذه الخيارات الإخراجية، ينجح عيوش في تقديم عمل ينتقد الواقع الاجتماعي بأسلوب فني راقٍ، مع الحفاظ على إنسانية شخصياته وسط قسوة العالم المحيط.

وتتميز  رؤية  المخرج  المغربي في "الجميع يحب تودا" استمرارية اهتمامه بالهوامش الاجتماعية المغربية، وهي سمة بارزة في أعماله السابقة مثل فيلم "علي زاوا" و"يا خيل الله"، ففي  فيلم "علي زاوا"، ركز على أطفال الشوارع في الدار البيضاء، مستخدمًا إخراجًا واقعيًا يمزج بين الشاعرية والقسوة لإبراز أحلامهم وسط الفقر، بينما في "يا خيل الله   استكشف دوافع الشباب المتطرفين بأسلوب درامي مشحون يعتمد على لقطات ديناميكية وحوارات مكثفة، بينما في "الجميع يحب تودا"، يواصل عيوش هذا النهج من خلال التركيز على مغنية العيطة في عالم الملاهي الليلية، لكنه يضيف طبقة تأملية أعمق عبر التباين البصري بين الأماكن، المدينة الصغيرة مقابل الدار البيضاء، واستخدام الرمزية، مثل المصعد وإطلالة المسجد، على عكس  مشاهد فيلم"علي زاوا" التي تميل إلى السرد الشاعري، ويعتمد في "تودا" على إيقاع أكثر توازنًا بين الدراما والتأمل.

ويتفوق عيوش في  فيلم "الجميع يحب تودا" بتقديم نقد للاستهلاكية والاستغلال الثقافي، وهو موضوع يتقاطع مع  فيلمه"الزين اللي فيك" ولكنه يُعالج بأسلوب أكثر دقة، ففي فيلم في "الزين اللي فيك"، استكشف عيوش عالم الدعارة في مراكش بأسلوب جريء ومباشر، مستخدمًا إضاءة قاتمة ولقطات وثائقية ليبين  استغلال النساء، بينما في "تودا"، يتناول عيوش استغلال الفنانات في سياق الملاهي الليلية، لكنه يبتعد عن المباشرة المفرطة، مفضلاً التلميح عبر مشاهد رمزية مثل المصعد أو التداخل الصوتي بين الأذان والعيطة ويدمج بين الفردية والمجتمع بأسلوب  اقوى لكنه يتجاوزه في تعميق الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية.

ويركز المخرج على معلمة تسعى لتغيير مجتمعها الريفي المحافظ، مستخدمًا إخراجًا هادئًا يعتمد على المناظر الطبيعية والإيقاع البطيء لإبراز عزلتها وصمودها، ويعتمد  على إيقاع أكثر تنوعًا، ويمزج بين لحظات التوتر، مثل مشهد الاغتصاب، ومشهد استماع تودا لطفلها، مع استخدام أكثر تعقيدًا للرمزية البصرية والصوتية، مثل التداخل بين المسجد والنوادي، وهذا التطور يظهر قدرة عيوش على الحفاظ على هويته السينمائية المتمثلة في استكشاف الهوامش، مع إضافة طبقات جديدة من الرقي الفني والنقد الثقافي.