في ذكرى 17 فبراير.. سيطرة مدن الثورة على الوضع في ليبيا

اخلّت الأطراف الليبية المتصارعة بكل التزاماتها نحو الشعب.

قد يعتبر البعض استذكار الماضي وما نتج عنه من ماسٍ لا زلنا نعيش اصنافها المختلفة نوع من النبش الذي لا فائدة منه. ولكن على مدى 13 سنة، هل تقدمنا قيد انملة في أي من المجالات الحياتية؟ هل تحسنت حالة المواطن؟ كلا. فالتذكير بما حدث ويحدث قد يجعل المسؤولين واصحاب القرار يعيدون النظر فيما يحصل والعمل على تغيير الاتجاه بما يحقق الامن والاستقرار وتمتع المواطن بخيرات البلاد المنهوبة وحريته المسلوبة. فالثورة التي تستنجد بالخارج او تبارك تدخله تكن رهنا له وتنفذ اجنداته التي لا تنتهي.

بعد سقوط النظام، تمت السيادة للمدن التي تسمي نفسها مدن الثورة ونسيجها القبلي وتشكيلاتها المسلحة، فتكون اللادولة واقعاً مأساويا، حيث تسجن وتخطف وتقتل، ولها حصتها من الميزانيّة، فرؤساء الحكومات المتتالية يقدمون لها الهبات والمنح لأجل نيل رضاها.

في الشرق الليبي الذي انشق باكرا عن الحاكم، شهد زيارات لكبار ساسة الغرب المؤيدين لانتفاضته، عانى ويلات التنظيمات الارهابية التي تم استجلابها من قبل داعمي التغيير/الثورة من عرب وعجم وخاض افراد القوات المسلحة الذين اصبحوا مستهدفين من قبل التنظيم وبمساعدة الاهالي معارك طاحنة اسفرت في النهاية عن تحرير بنغازي ودرنة اللتان كانتا تمثلان البؤر الرئيسية للتنظيم، ومن ثم اعيد بناء الجيش الوطني واصبحت المنطقة الشرقية تنعم بالأمن والاستقرار وانسحب ذلك على المنطقة الجنوبية.

في الغرب الليبي ثلاثة مدن قادت التمرد على النظام وشكلت خطرا عليه افلح النظام في اخماد التمرد بمدينة الزاوية لقربها من العاصمة، بينما افلحت الاخريتان، مصراته والزنتان، في الاجهاز على النظام بمساعدات عربية وغربية، وبعد الاطاحة به اصبحتا تستحوذان على نصيب الاسد بالمنطقة في التشكيلات الحكومية المتعاقبة. كما ان لكل من المدينتين اكثر من تشكيل مسلح مدجج بمختلف انواع الاسلحة، يمثل جناحها العسكري لمؤازرة جناحها السياسي في فرض الرؤى والحصول على مغانم او لنقل هبات سخية لصالح رعايا المدينتين ومنها على سبيل المثال عقود توريد السلع.

منذ اسابيع قال عضو المجلس الرئاسي اللافي "لا يوجد حاليًا ميليشيات في ليبيا، بل أصبحت كلها تتبع الأجهزة الرسمية للدولة". انضواء هذه الجماعات تحت أجهزة الدولة يجعلها قابلة للمُساءلة رسميًا. ان كان الامر كذلك فماذا عن الاقتتال بين المجاميع المسلحة وسقوط ضحايا وماذا ايضا عما يحدث بين الفينة والاخرى من اغلاق للطرقات العامة؟ هل تمت محاسبتها ام انه تم ضخ الاموال اليها (الصريرات) لأجل التوقف عن الاقتتال او فتح الطرقات؟ هذه الأجهزة أو الكتائب أو الميليشيات تفرض قوانينها الخاصة في ليبيا بقوة السلاح.

يتم صرف الاموال الطائلة في شراء اسلحة وذخائر للاقتتال بين الليبيين، ولا يزال الانقسام بين من يدعون تعاطي الشؤون السياسية، يبعثرون الاموال يمنة ويسرة (اكثر من 800 مليار دولار في 12 سنة ولا يوجد شيء ملموس على الارض لصالح المواطن)، ويدعون حرصهم على اجراء الانتخابات ولكنهم في الحقيقة يعيقونها، ويسعون بكل ما اوتوا من قوة البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. وفي سبيل ذلك رهنوا مستقبل البلاد لداعميهم من القوى الاستعمارية او تلك التي تتطلع الى لعب دور اقليمي للحصول على اكبر منافع حدية.

لا تزال البلاد تحت الفصل السابع "محمية"، بينما يعيش المواطن اوضاع معيشية صعبة والتلويح (التهديد) بفرض المزيد من الضرائب عليه، تم رفع الدعم عن جميع السلع بل تشترى بأضعاف اثمانها. لم يبق الدعم الا على المحروقات، يريدون رفع الدعم عنه وهم يحرقون اموال الشعب. شياطين الانس يرفعون سعر صرف الدولار في السوق السوداء ثم يخفضونه قليلا وتثبيته رسميا بدل رفع الدعم عن المحروقات الى ان تهدأ الامور ومن ثم يصار الى رفع الدعم كليا. الطوابير على محطات الغاز والوقود وامام البنوك لأجل الحصول على السيولة اصبحت احد معالم البلد، ناهيك عن الانفلات الامني وغلق الطرقات بين الفينة والاخرى طلبا للمال من خزينة الشعب التي يتولى اناس غير مؤهلين منصّبين من الخارج ادارتها، وانتشرت ثقافة "الصريرات" التي يسيل لها لعاب الخارجين عن القانون، فيفعلون ما يؤمرون.  

الدبيبة اكمل عامه الثالث ولم ينجح في الايفاء باي من تعهداته، لم يتم إنهاء الانقسام بل زاد اكثر، لم يتم تحقيق المصالحة الوطنية، لم تتحسن الخدمات للمواطن، لم يتم الوصول الى الانتخابات، انها الحكومة الاكثر فسادا مقارنة بسابقاتها حيث تم ايقاف بعض اعضائها والتحقيق معهم، ومنحوا صك "براءة" وعادوا الى مزاولة اعمالهم! وزير الاقتصاد بحكومته اللاموحدة قال منذ ايام بان 40% من الليبيين يعيشون تحت خط الفقر. اعتراف صريح في بلد نفطي وعدد سكانه قليل جدا.

سجلت اول محاولة ليبية للتطبيع مع الكيان المحتل بلقاء وزيرة خارجية الدبيبة مع نظيرها الصهيوني في روما، منتهكة بذلك مشاعر الليبيين واعتبار فلسطين قضيتهم الاولى وشارك العديد منهم في حرب 1948 بفلسطين.

الذين يتصدرون المشهد بمدن "الثورة" يشكلون العقبة الرئيسية نحو المصالحة الحقيقية، ويسعون الى فرض نفوذهم على حاضر ومستقبل البلاد، انهم يمتلكون الثروة والسلطة والسلاح ومن ثم لهم الكلمة العليا وليذهب الباقون الى الجحيم.

يبدو ان الاطراف المتصارعة اقتنعت بان أيا منها لن يستطيع ازاحة غيره. فلكل طرف داعمين له، خاصة بعد وضع الخطوط الحمر بشان الحدود بين المتقاتلين، وبالتالي يشوب هذه الاطراف نوع من الرضى والتعاطي مع بعضها بما يحفظ لها مصالحها واقتسام خيرات البلاد.

احسسنا من خلال ساستنا بان البلاد ستتحول قريبا الى سنغافورا؟ فاذا بليبيا تتحول الى تورا بورا.

لا حل يلوح في الافق للازمة في ليبيا، تُفكك بعض العقد فتصنع اخرى، لان الرعاة الرسميين يريدون بقاء الوضع في ليبيا ساكنا، في ظل الاحداث الدامية في غزة والبحر الاحمر التي تنذر بنشوب حرب عالمية تسعى الاطراف المعنية الى اجتنابها ليقينها التام بان أيا منها لن يكون الرابح.