في روايات مصطفي نصر إسكندرية سرية لا يراها المصطافون

مصطفى نصر أخلص لمدينته الإسكندرية، فلم يغادرها وكتب عن تاريخها وناسها، فعاقبته القاهرة بالتهميش والتجاهل.
مجلدات الأعمال الكاملة لا تضم رواياته بحسب ترتيب كتابتها أو نشرها
الروائي اتخذ وحدة المكان بديلا عن وحدة الأسرة

القاهرة ـ من أحمد رجب

ما بين "الصعود فوق جدار أملس" و"ما لم يقله البحر" أكثر من عشرين رواية والعديد من المجموعات القصصية والكتب الموجهة للطفل ومئات المقالات، عطاء غزير للروائي مصطفى نصر، الذي أخلص لمدينته الإسكندرية، فلم يغادرها وكتب عن تاريخها وناسها، فعاقبته القاهرة بالتهميش والتجاهل، فبقى رهين الظل عقودا، لكنه بمثابرة نادرة ظل يعمل بدأب عاشقا لا ينتظر من محبوبه شيئا، فلم يوهن التجاهل عزمه، واستمر قابضا على قلمه يبدع لقرابة نصف قرن فنا جميلا انتزع به مؤخرا من الجميع اعترافا وتقديرا يستحقهما، وكان من آيات ذلك إقدام الهيئة المصرية العامة للكتاب على أن تنشر أعماله الكاملة، فأصدرت مؤخرا الجزء الأول منها في 660 صفحة من القطع الكبير، ويضم أربعة روايات هي: "جبل ناعسة، الجهيني، الهماميل، إسكندرية 67".
رباعية مكانية
المتابع لأعمال مصطفى نصر، يعرف أنه كتب "الصعود فوق جدار أملس"، و"شارع البير" و"الشركاء" قبل الروايات الثلاثة الأولى التي يضمها المجلد، وكتب "النجعاوية" و"ليالي غربال" قبل رواية "إسكندرية 67". 
هو إذن لم يشأ أن تضم مجلدات الأعمال الكاملة رواياته بحسب ترتيب كتابتها أو نشرها، بل أراد لمجلده الأول أن يرسم بانوراما شاملة للمكان السكندري في رواياته، فهو لم يختصر الإسكندرية في حي غربال، كما قال البعض بزعم أن سبعة من أعماله تدور أحداثها هناك، وإن لم يضم منها للمجلد الأول إلا "الجهيني"، أما "جبل ناعسة" فتدور في منطقة تابعة لحي كرموز، و"الهماميل" تدور في منطقة تابعة لحي اللبان، بينما "الإسكندرية 67" تدور في حي بحري، فنجد في الروايات تناولا بانوراميا لتفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل والفكرية للمجتمع السكندري في أحيائه الشعبية.
لذا يمكن قراءة هذه الأعمال بوصفها "رباعية روائية" تصور الحياة في الإسكندرية فيما بين عامي 1952، و1967. وإن اختلفت عن الرباعيات والروايات النهرية عموما في أن الروائي اتخذ وحدة المكان بديلا عن وحدة الأسرة، فلم يتتبع مصائر الأشخاص وسيرورتهم مع الزمن كما قرأنا مثلا في ثلاثية نجيب محفوظ أو رباعية لورانس داريل، بل سجل تاريخ المكان من خلال حركة الشخصيات داخله، معبرا بصورة المكان عن دلالات إجتماعية واضحة.
جبل ناعسة
في "جبل ناعسة" يصبح تاريخ الشخصيات تاريخا للمكان، فالمنطقة المعروفة بكونها من أوكار تجارة المخدرات في الثغر تسمت باسم إعرابية كانت تسرح بأغنامها في الجبل ثم بنت لنفسها فيه كوخا، كان نقطة البدء في مسار النمو الاجتماعي للجبل، الذي يصبح ملاذا للخارجين على القانون، فمنحوا المكان خصوصيته، وهو أيضا أسبغ عليهم من وحشته وعزلته فاهترأت حيواتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، والرواية باستعراض تاريخ المكان من خلال شخصياته تعمد إلى تعرية الشخصيات وكشف زيفها مثل "جابر عبدالواحد" الكاتب المسرحي الشهير، تبدأ الرواية بزيارته للمكان ثم تغوص في ماضيه لتظهر التناقض بين مظهره البراق وحقيقته الخربة، فقد نجح في الاستفادة من الجميع وطالت لعنته الجميع، بداية من الخواجة أنطونيو الذي علمه الفرنسية وعوده قراءة الأدب، لكنه تواطأ على قتله، والكاتب على وجدي الذي أخذ بيده وهو في أول الطريق فلما استوى عوده وشى به واتهمه بالانضمام لتنظيم يساري محظور، والممثلة سامية خضر تكشف علاقته بها عن خسته وساديته، وقفت بجانبه في بداياته فألقى بها في الظل بعدما حقق الشهرة، يقول: "تريدين أن أساعدك، أنا جابر عبدالواحد أشهر مؤلف مسرحي في مصر أكشف عن علاقتي بامرأة مثلك؟"، ويقول "لو أعطاك مخرج في القاهرة أو الأسكندرية دورا سأحاربه". ويتذكر "أتلذذ وأنت تجلسين على ركبتيك، وأنا جالس كالملوك القدامى، وأنت جارية تلتمسين عطفي". 
أما اسماعيل بك ضابط المباحث فكان الوحيد الذي لم تطله لعنة جابر وكيف تطاله وهو القوي الذي أتاح له الصعود مقابل التقارير التي يكتبها للوشاية في المحيطين به. فكأن جابر لم يفلت من مصير سكان جبل ناعسة إلا لأنه أكثرهم خسة فصعد على أكتافهم، وتلصص على أسرارهم وما كان له أن ينجح بوسيلة أخرى.
الجهيني
أما رواية "الجهينى"، فقد اتسعت الرقعة المكانية وكان حي غربال هو المكان الذي يؤطر حركة الشخصيات مؤثرا فيها، وفيما تفعل من أحداث، فترتبط تحولات الشخصية بتحول المكان، فنرى عباس الجهيني قبل النزوح إلى الإسكندرية قاصدة عمه الدكتور، كان "كغراب يابس، طفل أسود كجريد النخل، كأن جسده بلا دماء"، واحتاج تدريبا حتى يحفظ عنوان عمه، في بداية الجزء الأول يصل حاملا أشياءه في قفة، لكنه بوصايا عمه وبإجادته التسلق والانتهازية ينجح في الصعود إلى القمة، فينضم لهيئة التحرير، ثم يرأس فرعها في غربال قبل أن يصبح نائبا في مجلس الأمة. 
وفي الجزء الثاني يزيح عمه الدكتور من مكانه، لكن تم حل مجلس النواب    "بمناسبة الوحدة مع سوريا" وكان عباس فاقدا لتأييد بهجت بك فتم رفض أوراق ترشيحه، ووقع الاختيار على عزب الجهيني ليكون نائبا، وبانتهازيته المعهودة ولتسليمه التام بالهزيمة، قبل بالأمر الواقع، فدعم ترشيح عزب قائلا "نعم، وسأتفق معه لأعلمه وأعرفه الطريق". 
هكذا أسهم المكان في رسم مصائر الشخصيات التي بدأت هامشية وطفت فوق السطح قليلا قبل أن تعيدها تحولات المكان إلى الهامش.
الهماميل
أما في "الهماميل" فالرواية تبدأ في منتصف السبعينيات، بإدارة أبوالوفا لمحرك سيارته وطيرانه بها فوق الأرض، تلازمه الرعونة في تصرفاته فيفقد منصبه كضابط كبير، لكن لنفوذ تلاميذ شقيقه تكون المغادرة إلى شركة قطاع عام (المؤسسة الكيماوية) يترأسها، والهماميل هي قواديس السواقي، والمكان المعروف بهذا الإسم يتبع حي اللبان بالإسكندرية، تكثر فيه ورش صناعة الهماميل، ومنه تخرج شخصيات الرواية، ففي واحدة من تلك الورش يتعرف مجاهد عبدالراضي والد الدكتور صالح، بعلي منصور والد الصحفية صفية، يتصادقان ويشتركان في النضال، ذكريات مجاهد ومذكرات على منصور يعودان بالرواية الى وقت الحرب العالمية الأولى، فتتأرجح أحداث الرواية بين زمانين، يستدعي منهما الراوئي ما يراه لازما لروايته "في عصر السلطان حسين كثر غش المصوغات، … وكثرت السرقات، وانتشرت الدعارة وأثري القوادون".
سمات الفساد تلك تتفاقم، فنرى خولي عزبة الباشا حسنين أفندي يقوم بضرب وتعذيب فلاح ضبطه يسرق عنقودا من العنب، طاعته لسيده تدفع الباشا للتوسط لابنه الكبير أبوزيد الذي يصير ضابطا شرطيا، تابعا للمأمور الإنجليزي، يصبح كأبيه وبعد قيام ثورة يوليو لا يفقد منصبه فهو ابن فرح، يساعد أخاه الأصغر أبوالوفا، ويحافظان على امتيازاتهما رغم تبدل العهود، لذا فمن الطبيعي أن تتوقف المؤسسة الكيماوية، وأن يموت علي منصور حزينا وأن تمنع صفية من الكتابة وتفشل في نشر مذكرات والدها المناضل، ويقول لها صالح الذي تعطل عن العمل "سأبقي معك إلى أن نجد حلا"، فكأن النضال قدر من يختارون المقاومة بينما يبقى الفاسدون مرتبطين بكل سلطة، وهنا تتجلي دلالة المكان، فالدوران اللانهائي للسواقي يشبه توالي أجيال الشخصيات بفئتيها: المناضل والفاسد، بينما المكان الذي يفرزهما معا - ورش الهماميل - يستمر في دورانه الأبدي.
إسكندرية 67
يقول مصطفي نصر إن الأسكندرية عنده ليست تلك التي يعرفها المصطافون، فهي ليست البحر أو الشاطىء، لذا يواصل في رواياته النبش عن تاريخها وعن حكايات ناسها، وفي روايته "اسكندرية 67"، يقصد حي بحري الذي يراه أصل المدينة، إذ يجمع بين الشعبية والأرستقراطية، يضم باشوات ما قبل ثورة 1952 وجاليات أجنبية ولاعبي كرة قدم وفنانين مشهورين. وقد حدد الكاتب ابتداء من العنوان "اسكندرية 67" زمن الرواية التي  تصور في بعض أحداثها نجاح البحرية المصرية في إفشال محاولة تسلل عناصر من البحرية الإسرائيلية بالقرب من قلعة قايتباي للقيام بأعمال تخريبية في المدينة، وبعدها تم القبض على شبكة تجسس بالمدينة وإغراق الغواصة الإسرائيلية المسماة بالتمساح بالقرب من شواطىء الإسكندرية، فكانت تلك الانتصارات التالية للهزيمة في يونيو/حزيران 1967، تأكيد على أن جذوة المقاومة لم تنطفىء وقادرة على تحقيق الانتصار رغم استمرار دوران سواقي الفساد والانتهازية. (خدمة وكالة الصحافة العربية)
 

روايات سكندرية
المكان أسهم في رسم مصائر الشخصيات التي بدأت هامشية