في مصاب هنية وما قاد إليه

ما يحتاجه السياسيون أن يكونوا أكثر إنسانية في التعامل مع مشكلات حقيقية لا تحلها النبوءة القائمة على الافتراض.

بغض النظر عن الأسباب التي دفعت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية إلى اعتبار مقتل أولادة الثلاثة وأحفاده الأربعة جزءا من التضحيات التي قدمها ويقدمها شعب غزة في مواجهة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل منذ أكثر من ستة أشهر، فإن ما حدث يعد مصابا جللا لا يمكن المرور بجانبه الشخصي بطريقة عابرة. فالأمر ينطوي على جرح شخصي مصدره فقدان فلذات الأكباد وخسارتهم التي تدمي القلب حتى بالنسبة لزعيم حركة مسلحة، دخلت إلى الحرب بقرار منه. فهو وأن كان يتحمل مسؤولية ما يجري في غزة انطلاقا من موقعه، فإن سقوط أبنائه قتلى هو حدث شخصي يعنيه كإنسان فرد قبل أن يكون أن زعيما. ما قاله هنية تعليقا على مقتل أبنائه كان صحيحا من منطلقات عامة تدخل في سياق اللغة السياسية التي تهدف إلى تكريس صورة الزعيم الذي لا يضع أبناءه في مكان يختلف عن ذلك المكان الذي يسقط فيه أبناء الشعب الفلسطيني قتلى بنار العدو. غير أن التغافل عن الأثر الشخصي يبدو مبالغا فيه. ولا يملك المرء في التعامل مع المسألة سوى أن ينظر إليه باعتباره أباً يحق له أن يحزن بطريقة استثنائية.

وإذا ما نظرنا إلى ما جرى من زاوية دينية يمكن القول أن الأنبياء بعظمة مواقعهم حزنوا على وفاة أبنائهم. ليس في ذلك الحزن ما يعيب أو يُحرج أو يقلل من قيمة الشخص وعمق انتمائه للقضية التي يدافع عنها. ولكن المنظور العقائدي يمكن أن يُفسد الكثير من الجوانب الإنسانية ويضع الشخص في قفص برمجة تبعده عن حقيقة مشاعره. وإذا ما كان الموت هو الموت في كل أحواله فإن مفهوم "الشهادة" في سياقه الديني يضفي عليه هالة هي ليست منه. في الحرب العراقية الإيرانية سقط على الجانبين المتحاربين أكثر من مليون ونصف من الشباب قتلى بطريقة عبثية ومجانية. كل طرف منهما كان يحسب قتلاه شهداء. وهو ما كان ييسر لسياسيي البلدين القيام بمزيد من حملات التعبئة من غير الالتفات إلى ما تنطوي عليه تلك الحملات من استخفاف واستهانة بقيمة الإنسان الذي هو وارث الأرض حسب النص الديني أولا وثانيا بالمعنى الحقيقي للشهادة حسب ما ورد في النص الديني نفسه.

لا يمكن أن يكون هنية وهو أب مكلوم مستخفا بموت أولاده وأحفاده. غير أن ثباته عند مفهوم الشهادة الذي صار سائلا بحيث يمكن لأي زعيم سياسي أن يضع شعبه على لائحة الشهداء يحفل بالكثير من المغالطات على المستوى الإنساني. لقد سبق لحزب الله أن حول جنازات قتلاه إلى ما يشبه الأعراس. وفي ذلك تجاوز على مهابة الموت. فللموت قدسيته. وإذا ما كنا نؤمن بالحياة الأخرى، حياة ما بعد الموت فلسنا مَن يقرر نوعها وطبيعتها. ذلك لأن قياساتنا تظل أرضية فيها الكثير من الأحكام الافتراضية التي لا يملك أحد القدرة على تأكيدها. لقد اعتبر هنية في معرض تأبينه لأبنائه أنهم قد انضموا إلى الأربعين ألف قتيل فلسطيني شهداء عند ربهم. كما لو أن أولئك الأربعين ألفا من البشر قد كرموا بالموت ولم تتم إبادتهم بسبب حرب كان يمكن تفاديها. هناك خطأ في مكان ما يضع الأمور في غير نصابها. وهو خطأ ينتمي إلى الجنون ولا يمت بصلة إلى العقيدة التي تدعو إلى الحفاظ على النفس البشرية وعدم التعامل معها بطريقة مجانية.

خسر هنية أبناءه وخسر أهل غزة أبناءهم. وكما في الحرب العراقية الإيرانية لا يملك أي طرف الحق في التنبؤ في نوع وشكل الحياة التي سيعيشها القتلى في العالم الآخر. ولكن السؤال يتعلق بمَن فقد حبيبا له وهو لا يزال حيا. وهو سؤال يشمل هنية نفسه. ستنتهي حرب غزة مثل كل الحروب. تنهض المدن من ركامها بعد حملات إعمار لن يكون في إمكانها أن تعمر نفوسا أثقلها الفقدان بظلام حزنه. ما يحتاجه السياسيون أن يكونوا أكثر إنسانية في التعامل مع مشكلات حقيقية لا تحلها النبوءة القائمة على الافتراض.

تترك الحرب وراءها أمهات وآباء فقدوا أولادهم كما هو حال هنية ونساء أرامل ويتامى، لا تفارق حكايتهم مع الحياة حدود اللحظة التي بدأ فيها شعورهم باليتم. الموت مثل الحرب ليس لعبة. الموت هو الموت. أما حين نخشى أن نسميه موتا فذلك يكشف عن خلل في عقولنا.