قساوة المفردة ونقاء الصورة في مسرحية 'جدار'
لم اجد أعمق من مقولة بودلير لتكون متجانسة مع طبيعة عرض مسرحية جدار "الإنسان قد وهب موهبة الشعور بالألم، ولا أعتقد أن الحياة ستكون عادلة إن نحن تجاهلنا ذلك الألم" جاءت هذه المقولة لتتجانس مع ما قالة الكاتب حيدر جمعة وشكل صورة هذه المفردات بصريا المبدع المخرج الدكتور سنان العزاوي والتي جسدها ادائيا مجموعة من الممثلين الذين يمتلكون حرفة الاداء على مستوى عالي، هذا الالم تجسد في شخوص تراقصت وجعا فانتج فنانا جماليا فاصبح الالم هو المعلم الذي يقود الممثلين الى الغور في اعماق الشخصيات التي جسدها على خشبة مسرح الرشيد:
النص:
استنطق الكاتب حيدر جمعة مفرداته من بيئة مجتمعة محافظة اخترقها التفكك فهمش المركز السلطوي ورجح الهامش ليكون هو مركز الحدث بعد ان كان المقدس هو المركز صار المدنس هو المركز والمقدس تحول الى هامش ولا اقصد بالمقدس هنا هو الاصل بل مفهوم الحرام والحلال فزنا المحارم وتبادل الزوجات والاغتصاب والمتاجرة بالمخدرات اصبحت من المفاهيم المتداولة في مجتمع مغلق عقائديا كسر حيدر جمعة هذا التابو ليقدمه بفضاء نصي جريء ذات نسق محبوك ينتقد فيه كل الظواهر التي اخترقت ذلك المجتمع ويوجه اصابع الاتهام الى الساسة الذين تركو حدود هذا البلد مشرعة امام كل المحرمات قيميا واخلاقيا ودينيا لتكون ظاهرة في مجتمع له جذور تاريخي عريقة .
نقل هذه الصورة مخرج العرض سنان العزاوي ليقدم لنا كل ما قاله النص لكن بصيغة فنية سمع بصرية كانت تتسم بالأناقة رغم قساوتها وهذا ان يدل على ان المخرج كان يسعى جاهدا على تزيين الصورة البصرية فالجدار البيض الذي كان يدل على عكس ما نشاهده من سواد فكري وسواد اخلاقي داخله كان ابيضا وهذا البياض يحمل في حيثياته دلالات فكرية تدل على عفة وقيمة المراءة التي تمزقت عنوة مزقها ذلك التغير العقلي اذ تحول العقل البشري الحر، إلى آلة إستجابة أوتوماتيكية وهو تحول يمكن تحقيقه من خلال بعض الثورات الثقافية في مجتمعنا الحالي، ولذلك، فإن الاغتصاب والقهر يُعتبران من بين أقدم الجرائم البشرية، اذ تعود بداياتها إلى أيام ما قبل التاريخ، ايام استغلال الصفات الإنسانية من أجل ممارسة السلطة على بقية إخوانه من البشر.
هنا فقد استطاع المخرج ومن خلال ذلك المكان الابيض ان يصور لنا عالما مغلقا تختلط فيه الثقافات الا انها تشترك في الم واحد هو الم الاغتصاب الفكري حيث اظهر لنا العزاوي حتى المتاسلمة داخل هذا الجدر هي تتصنع التأسلم وهذه اشارة الى ان كل الادعاءات الدينية تحمل داخلها عهرا كبيرا، فضلا عن الشخوص الذين يقومون بمراقبة ذلك الجدار فكانت شخوص غروتسكية شخوص مسها المسخ نتيجة ارتكاب الجرم وهو ارتكاب المحارم، كما وقد كشف لنا التآمر الكبير الذي يحدث خلف ذلك الجدار عن طريق التقنية الرقمية التي كانت الداعم الحقيقي للعرض لتكون دائما مراقبة للواقع تلاحق كل من يريد الخروج من هذا الصندوق المغلق، وكما يقول كارل بوبر "تقديس السّلطة هو أحد أسوأ أنواع الوثنيات البشرية، تقديس السّلطة وليد الخوف، وهو شعور يستحق الاحتقار" هذا ما جعل العزاوي يصرح بكل الممنوعات ويكشفها الى العلن، ليهمش ويحتقر السلطة السياسية التي ساهمت في تمويع قداسة المجتمع العراقي من خلال السماح لدخول ثقافات مغاير تتنافى مع ثقافة المجتمع الشرقي، وعبر هذا الصورة الدراميا التي قدمها العزاوي فهي رسالة تنص على ان الفرد في هذا المجتمع عليه ان يعاني ليبقى حرًا من هيمنة القطيع، ستكون وحيدًا.. وأحيانا خائفًا، لكن الثمن ليس غاليًا في مقابل أن تمتلك نفسك.
ما كتبة المؤلف وصورة المخرج تجسد في اجساد الممثلين التي حلقت بفضاء المسرح رسمت حدود مغاير للأداء التمثيلي وكسرت حدود الاداء التقليد لتقدم لنا اداء حسي شعوري جاء من حالة التبني للدور المناط بهم، فقد شكلت الحركات الجسدية والمفردات الصوتية التي استعملها الممثلون كوسيلة لعرض أفكارهم وعواطفه ومفاهيمه وآلامهم، لذلك امتزج الاداء التمثيلي فيها الرقص والحركات الصامتة الايمائية المتنوعة، التي ما ان دلت الا عن عملية اختزال لأفعال الالم والعذاب وخاصتا في رقص الممثلات لعدم امتلاكهن القدرة للتعبير عن حالة الالم والعذاب والحزن الداخلي خوفا من الرقيب، فأنتجت ومن خلال حركاتهن فائضا ادائيا ايجابيا، وبهذا اكتسب جسد الممثلين داخل فضاء العرض اهمية تواصلية لا غبار عليها، لا سيما الجسد الذي اصبح له عبر مراحل تطور التاريخ الانساني بعداً رمزياً، يشكل نظاماً من العلامات الدالة، والمنتجة للمعاني، عن طريق حركاته التي تمثل إنتاجاً ثقافياً لطبيعة الحضارة، والنظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه، ونتيجة لتطور النظم الاجتماعية عبر العصور، تطور الأداء الإنساني من الافراط اللفظي والعشوائية الحركية متجهاً صوب الاقتصاد والتكثيف والانتظام، دون إحداث أي خلل في نقل المعلومة المراد ايصالها، ولا اتحدث هنا عن شخصيات معينة، بل اتحدث عن الاداء الجمعي اذ كان عبارة عن خلية نحل تنتج صورا وتهدم صورا اخرى لتنتج معنى اخر فالمعنى لم يكن ثابتا بل تعدد بتعدد التحولات التي جاء بالأداء فلكل شخصية من هذه الشخصيات مساحتها الادائية عمل الممثل على ان يتجاوز هذه المساحة ويحلق في فضاء المسرح ليخاطبنا وهو في حالة التسامي.
تجسدت حالة التسامي في ضوء الدكتور علي السوداني الذي ابهرنا في تشكيلاته اللونية والتي جعلت منا لا نبرح المسرح طيلة ال 150 دقيقة فكان كل مشهد من مشاهد "الجدار" جدارا اخر يحكي قصة اخرى تختلف ببنائها الفكري عن التي سبقتها على الرغم من ان القصص التي قدمت مسموعة في وسائل الاتصال الاجتماعي لكن صورة المسرح غيرة كل ما كان مسموعا واصبح عنصرا مرئيا وممتعا فكانت الدهشة والابهار والمتعة حاضرين طيلة مدة العرض، شكرا لكم احبتي كونكم ساهمتم في اعادة المسرح العراقي الى الحاضنة الثقافية بعد ان هاجرته لفترات طويلة .