'قناع بلون السماء' انتصار للسرديات المهمشة

لا أتوسع في أي جانب تقني من جوانب الرواية، ولا ألتفت إلى اللغط الذي أثير حول الجائزة، ليس لأن الأول غير مهم، والثاني لا نعرف كواليسه، ولكن لأن وصول هذا الصوت الفلسطيني السجين إلى مديات بالغة الاتساع وعالية الصدى، هو سبق مهم يسترعي الانتباه، لعل النهر الذي يهدر بالكلمات يصل محيطا شاسعا، فيتململ المحيط قليلاً.
ميسلون هادي
بغداد

يقول الروائي العراقي علي بدر إن السردية المنتصرة لا تنتصر أبدا، إنما يكفي للسردية الهامشية والمندحرة أن تظهر، كي تتقهقر أمامها أكبر المرويات وأكثرها رسمية، وعلي بدر هو كاتب رواية "مصابيح أورشليم"، التي تجعل أدورد سعيد يرحل افتراضياً إلى القدس، ويتجول بين أزقتها وأحيائها القديمة، ليجد نفسه غريبا وسط مدينة قامت الكولونيالية بتغيير معالمها العربية، وهذه المتاهة الكولنيالية هي المحور الأهم لرواية باسم خندقجي، والتي طرحها من خلال فكرة ذكية ولافتة، هي الإحلال والانتحال في الهويات.

يتطلب مثل هذا العمل الروائي بحثا مكثفا وجهدا كبيرا لتقصي المعلومات التي يحتاجها الكاتب لتموين فكرة العمل، ولهذا يشكر الروائي باسم خندقجي في نهاية الرواية، بعض رفاقه من داخل الأسر وخارجه، ممن زودوه بالمعلومات الثمينة التي يحتاجها، وهو السجين منذ أن كان في العشرين من العمر، كما أنه يذكر، في متن الرواية، بعض عناوين الروايات والكتب التي ناقشها، أو تداولها مع صديقه مراد، السجين الذي يدرس الكولونيالية، غير أنه لا يذكر أعمالاً أخرى، يبدو لي، أن الكاتب قد تأثر بها، وتناص معها، ذلك أن الكتابة في نهاية الأمر، ما هي إلا تناص على تناص على تناص.

تُقدم رواية "قناع بلون السماء" خريج معهد آثار فـلسطيني اسمه "نور مهدي الشهدي"، يتعلم العبرية، بلكنة أشكنازية، أثناء عمله في الفنادق والمواقع الأثرية، لتأمين أقساط الجامعة. يجد نور هوية زرقاء في جيب معطف قديم لإسرائيلي اسمه "أور"، فيرتدي قناع شخصية المحتل، ويبحث في تعقيدات المسافة بين نور وأور، من خلال مشروع كتابة رواية عن مريم المجدلية، التي انبثقت أمامه من رواية "شفرة دافنشي" لدان براون.. صديقه السجين مراد ينصحه بكتابة رواية عن الحاضر، وما يحدث من تهويد للأحياء الفـلسطينية، لكنه يفضل الذهاب إلى التاريخ، لأنه أساس المرجعية المعرفية، التي أصابها التشوه والتحريف بسبب السردية الغربية، فجعلت الهوية الفلسطينية تتهالك، ويجري التهامها.

يُخرج نور من صندوقه المعطف الجلدي الأشكنازي، وهوية زرقاء، وقلادة ذهبية لنجمة داود، لكي يذهب إلى القدس مهد الحكاية والرواية، محاولا البحث فيما يعزز مشروعه الروائي عن مريم المجدلية، من خلال الالتحاق ببعثة أثرية تنقب بجانب تل مجدو التاريخي.. انقلبت أحواله وأقداره، فيغترب عن واقعه الزقاقي في رام الله، وتشوهه الأول بسبب النكبة، ليرتدي قناعا لشخص اسرائيلي اسمه أور، والاسمان يتشابهان في اللفظ والمعنى، فيمضي إلى القدس ليمشي بهذا القناع، ساعده في ذلك بياض بشرته وزرقه عينيه وشعره الأشهب.

"نور"، بطل الرواية، الذي عمل، قبل الالتحاق بالبعثة، مرشدا سياحيا للوفود، التي تؤم القدس في الأعياد المسيحية، يعيش في ظلال الأقنعة منذ ثلاثين عاما، فكان يولد أكثر من مرة، بخلاف أمه، التي ماتت مرة واحدة اثناء ولادته، وأبيه الذي مات على عدة مراحل، لأنه خرج من السجن ليجد المناضلين يتقلدون المناصب العليا، ويركبون السيارات الفارهة، فآثر الصمت والعمل في بسطة للقهوة والشاي، وسط دهشة أهل الحي، واحترامهم له على موقفه هذا.

 سيتسلل عبر ثغرات جدار الفصل العنصري للقدس، وهو عتبة فاصلة بين عالم المركز وعالم المهمشين، أي بين هوية أور الأشكنازي وهوية نور الفلسطيني، ليجد نفسه معتنقا  القدس بقناع جديد، ظاهره أور وباطنه نور، متحررا من أعباء رام الله، وأبيه المعتقل السابق، الذي يحتضر خيبة وخذلانا. وهنا سيختفي الرأي الآخر المعتدل من الصورة، أي رأي اليهودي غير الصهيوني، أو المتعاطف مع القضية الفلسطينية، وهي الصورة الإيجابية التي كان عليها  أدورد سعيد في موقفه من بعض أصدقائه اليهود،  غير أن هيمنة الرأي الواحد، التي تبدو طبيعية لمن حُكم بالسجن مدى الحياة، ستخترقها  حالة واحدة من انتباه الروائي، وليس السجين، عندما وصل نور إلى ذكر الكاتب اليهودي إبراهام بن يهوشوع، الذي ناقش قضية المحو الاسرائيلي لقرى عربية بأكملها بعد نكبة  1948وتغطية الجريمة بغابات كثيفة الاشجار.

في أول لقاء لـ"نور"/ "أور" مع بروفيسور أميركي في معهد أولبرايت للأبحاث الأثرية، يحتفي البروفسور ب"أور" القادم للتسجيل بالبعثة الاثرية.. يقول نور في سره، هل هما اسمي العبري ونجمة داود من دفعاه إلى هذا الاحتفاء المرح؟ لو قلت له الآن إن اسمي هو نور شهدي، هل كان سيعاملني بالمثل؟  هذا السؤال لـ"نور"، بطل الرواية، تكمن،  في الرد عليه، مشكلة كبيرة من مشاكلنا نحن العرب، فاللوم يقع دائما على الآخر، الغربي خصوصاً، لأن مرايا الذات والآخر، قد شوهها التعليم التلقيني العقائدي اللاعن للآخر، بينما نحن بحاجة إلى توجيه اللوم لأنفسنا، في المقام الأول، على ما نحن عليه من هوان.  

سينظر "نور" إلى نفسه في المرآة على إنه أور، أثناء عمله في البعثة، وسيستمر بتدوين الأفكار والتخطيطات حول مشروعه الروائي على شكل بطاقات صوتية تتعلق باقتفاء أثر مريم المجدلية في الأناجيل الأربعة والمدارس الغنوصية، التي كانت مننشرة بعد صلب يسوع على مدار القرنيين الميلاديين الأوليين، وأهمها نص مسيحي ترجمه فراس السواح في كتابه ألغاز الانجيل، وفيه يتذمر بطرس من احتكار مريم المجدلية الحوار مع يسوع، وتجاهلها لأسبقية بطرس في الحوار؛ هذا المحور في الرواية لم يتطور كما ينبغي، إذ انتهى بحلم صوفي يصور العثور على بئر يقود  لمقام مسك العطار، الذي مسحت به مريم على قدمي يسوع.. وهنا ينقطع الخيط الذي بدأت به الرواية، بطريقة أنهت وجع قلوبنا من تفاصيل مؤلمة، لتحل محله نهاية عاطفية تغازل الأمنيات والآمال الشعبية، وتجعل فكرته عن مريم المجدلية لا تندمج مع الوقائع الأخرى داخل الرواية.

يقول علي بدر أيضا في "مصابيح أورشليم": "لأن إسرائيل نشأت من أسطورة أدبية. من فكرة رومانتيكية .. نشأت من رواية.. وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضاً، يجب تكذيبها عن طريق الرواية.. الرواية هي أفضل حرب.. طالما كل الحروب قد خسرت وفشلت، لماذا لا نجرب الرواية؟". وهذا ما فعله  كتاب فلسطينيون كُثر آخرهم، وليس أخيرهم، باسم خندقجي، إذ لجأ بطله "نور الشهدي" إلى تدوين بطاقات صوتية، كتخطيطات وأفكار ويوميات لمشروع روائي داخل الرواية نفسها "ميتا سرد"، وهذه الرسائل، من نور الطليق، موجهة إلى صديقه مراد، الذي لن يسمعها، لأنه أسير في سجون الإحتلال، وتأتي البوكر لتنقل هذه الرسائل الصوتية للعالم كله، في إضاءة متوهجة سلطت نورها على أسر  ظالم عاشه الفلسطينيون منذ نكبة عام 1948، ويترشح الآن عن أحداث  مريرة يراها الكثير من ساسة الكوكب، ويغضون النظر عنها...

وأخيراً هذا  تأكيد مني على أني لا أتوسع  في أي جانب تقني من جوانب الرواية، ولا ألتفت إلى اللغط الذي أثير حول الجائزة، ليس لأن الأول غير مهم، والثاني لا نعرف كواليسه،  ولكن لأن  وصول هذا الصوت الفلسطيني السجين إلى مديات بالغة الاتساع وعالية الصدى، هو سبق مهم يسترعي الانتباه، لعل النهر الذي يهدر بالكلمات،  يصل محيطا شاسعا،  فيتململ المحيط قليلاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طالما كل الحروب قد خسرت لماذا لا نجرب الرواية؟
جدار الفصل العنصري للقدس هو عتبة فاصلة بين عالم المركز وعالم المهمشين، أي بين أور الأشكنازي ونور الفلسطيني.