"قيامة اليتامى" الأذرع التي تغتال الطموحات والأحلام

في رواية أحمد خميس يقابلنا أيتام ليسوا ككل اليتامى الذين عهدتهم في رحلة حياتنا الطبيعية.
أحمد خميس استطاع أن يقدم معالجة أدبية وفنية وسياسية بين أحداث شهدتها سوريا نتيجة السنوات العشر العجاف المنصرمة وبين واقعة الباستيل
مقاربة أشبه بالسحر على لسان يعرب وبرناديت تلك الفرنسية التي كانت أكثر من متغيّر وأكثر من مجرد شخصية في رواية

نقف على طابور الانتظار ولا نسمع إلا صرخة تتلو الصرخة كلما تمّ إلقاء أحد منا في الهوّة العملاقة التي تنتهي بالّلا مكان، حاولتُ استراق النظر عسى أن أرى وجه موتي المحتوم، لم يتبقَ أمامي سوى عجوز وفتاة بطرحة العرس ورجلٌ كأنه أبي.
صحراء قاحلة كروحي .. تغزل زوابع العجاج الرفيعة التي تدور حول نفسها إلى أن تطال سقف السماء. وحفرة عريضة ذات صدوع تمور وتتصاعد منها أبخرة الجثث المتفسخة رأيتها بأم عيني... اسمع هسيس أصوات قادمة من حيث لا أعلم.
"(برهوت الشياطين المياه السوداء قبائل العفاريت وسجنها) هذا ما سمعته وأشياءُ أخرى لم أتمكّن من فهمها البتة وكأنها طلاسم أو لغة ليست كاللغات التي ألفتها في حياتي السابقة صرختِ العروس والعجوز وصرخ أبي فآذاني صوته أكثر من أيّ صوت آخر، وما أن دفعوني وركلوني ككيس القمامة حتى شرعتُ بالصراخ كغيري منتظراً قرار تلكم البئر التي لم أصلها حتى تاريخ كتابة هذه الرواية. ظننتُ بأن فسحة من الضوء بيضاء في نهايتها ستفضي بي نحو شيء ما. أي شيء غير هذا السواد السرمدي الذي يكفنني لم يكن ثمّة قاتل سوانا. تذكرتُ ذلك وأنا أسبح في الفراغ الحالك. العروس ركلت أبي وأنا ركلتُ العجوزَ أمامي، وفتىً بزيّ عسكري رفسني كما ترفس البغلة سائسها. ولا زلت أكتب لكم منذ ذلك الوقت، وإلى الآن". 

رواية "قيامة اليتامى" ناقشتْ واقع اللجوء وعملية التلاعب وغسل الأدمغة وكيفية تحويل البسطاء إلى قتلة غير مأجورين حتى انتقلت عدسة الحرف بين باريس وسوريا والعراق عبر تقنيات الرواية

هكذا استهل الكاتب نصه وكأنه يصف لنا باختصار ماذا يودّ أن يفعل بنا. في هذا المقال أتحدث عن عمل أُحبطت حينما نظرتُ إلى عدد صفحاته، وأنا الذي أهرب إلى القصص القصيرة وبعض القصائد التي أتلقّفها من بعض الكتيبات أو من على منابر التواصل الاجتماعي لكنني لا أعرف حقيقة الشعور الذي خالجني حينما قرأت اسمها.
بصراحة تبادر أول ما تبادر إلى ذهني بأنني أمام عمل سيتناول حكايات البيوت وأدب العائلات والمراهقين وبأن هنالك ثمة أطفالا يعانون يتماً ما إلا أنني فوجئت فور اقتحامي دشمة العمل الأولى بأنني أمام أيتام ليسوا ككل اليتامى الذين عهدتهم في رحلة حياتنا الطبيعية. أحمد خميس لم يتستر وفضح شخصياته منذ الوهلة الأولى إذ قال باكراً: "جاثٍ على ركبتَيه كمتعبّد يطالع دياره التي أيقن بأنه لن يراها مجدداً، تجاوز الحدود ولم يدر لها ظهره بل راح يمشي كمن أتمّ مناسكه وشرع يودع قِبلتَه.
"تبعثرت تلك الدور المحطمة كعواطفه كفتات روحه وأنفاسه، انتزعوه كشتلة آس ليزرعوه ها هنا غريباً وحيداً محطماً يتيم الأب والأم والوطن."
توقفتُ لبرهة حينما كررتُ قراءة المفردات السبع الأخيرة؛ غريباً وحيداً محطماً يتيم الأب والأم والوطن. صارعتني دمعة فقاومتها لكنني لم أقاومها إلا مرة واحدة، نعم بكيتُ كثيراً وأنا أعيش على وقع أنغام بشارة ذلك الفلسطيني الذي أتعبتني شهامته، بكيتُ وأنا اختبئ خلف الصفحات لكن نحيب العراق الذي تجسد بشخصيته مغنية الأوبرا تلك السمراء التي جبلتها تربة الرافدين، تلك التي حملت بغدادها وكربلاءها لتذبح باريس حسينها مرتين. مرة بزوجها ومرة بحبيبها.
في هذا النص قدم لنا الكاتب مقاربة فريدة بين ما عاشته المدينة التي ينتمي إليها بطل روايته يعرب عبدالغني القادم من الرقة متجهاً نحو باريس التي شهدت هي الأخرى مجزرة في باستيلها ذات يوم وهنا استطاع أحمد خميس أن يقدم معالجة أدبية وفنية وسياسية بين أحداث شهدتها سوريا نتيجة السنوات العشر العجاف المنصرمة وبين واقعة الباستيل. كانت مقاربة أشبه بالسحر على لسان يعرب وبرناديت تلك الفرنسية التي كانت أكثر من متغيّر وأكثر من مجرد شخصية في رواية.  

novel
قيعان سحيقة مليئة بالخذلان

نعم برناديت كانت العصا التي استهدت بها الشخصيات الأخرى إلى أدوارها في النص بشكل مثير للدهشة.
في قيامة اليتامى برع المؤلف في عقدة النص ففي كل مشهد تشعر بأنك تقف على شفير معضلة غير قابلة للحل وأمام لغز عاطفي لا تفسير له لتتفاجأ لاحقاً بروعة ما سيحدث منتظراً المزيد والمزيد.
في فصول النص التسعة والخمسين عقدة وشخوص وبيئة ولحظة تنوير فريدة ترتبط ببعضها بتفاصيل لو أنك حاولت تجريدها من كتابها لوجدت بأنها مستحيلة الربط والحبك.
حب وذكريات وعواطف وإثارة وغموض بسرد بديع وبعزف على ضمير المتكلم "أنا" والمخاطب "أنت" وبلغة تفيض شجىً وقوةً وأسىً.
استطاع أحمد خميس في هذا النص المؤلف من ٣٥٧ صفحة من استغلال كل حرف وكل كلمة وسخّر أدواته في خدمة عناصره فكان المكان جلياً فباريس الجميلة كانت قبيحة أشد القبح أحياناً. رأيناها وكأننا نتجول في متاحفها ومعابدها ومسارحها ومحطات باصاتها وشوارعها التي وكأن الشمس لا تفارقها. والزمان بدورة ليله ونهاره وشهوره وفصوله كان بمتناولنا بوصف يجعلك تخشى الظلام وتستأنس بالفجر وتنعشك النسائم. في الحقيقة تناولتِ الرواية مشاكل أكبر من مشاكل الحياة اليومية وقدمت تصوّراً عن البنية النفسية المتهالكة للمواطن العربي الذي ينحدر إلى قيعان سحيقة مليئة بالخذلان. تجسّدت بشخصيات كل منها تعبر عن واقع بلد عربي غارق بمأساته وأحزانه.
ناقشتْ واقع اللجوء وعملية التلاعب وغسل الأدمغة وكيفية تحويل البسطاء إلى قتلة غير مأجورين حتى انتقلت عدسة الحرف بين باريس وسوريا والعراق عبر تقنيات الرواية. كقارئ لم أجد نفسي أمام شخصية حملت على عاتقها زمام الأمور واحتكرت البطولة لنفسها، فلقد تعددت المحاور بتعدد الشخصيات حتى تلك التي لم يكن ظهورها بارزاً وهي قليلة لا تتجاوز ثلاث شخصيات حسبما أذكر إلا أنها كانت متغيرات غيّرت بمجرى الأحداث وتلاعبت بخط الصراع.
كانت النهاية على عكس ما توقعت بعيدة عن النهايات التي اعتدنا عليها، فالحياة ليست جميلة كما نعتقد.