كانت سنة العجائب والغرائب

تعيش المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج على وقع حرب غزّة التي كشفت إسرائيل التي تبدو عاجزة عن تحقيق انتصار ساحق على حركة مثل "حماس".

تقترب السنة 2023 من نهايتها. يمكن اعتبارها من اصعب السنوات التي مرت على هذا العالم، في ظلّ تعدّد الأزمات التي يمرّ فيها، خصوصا في المنطقة العربيّة أو ما يسمّى العوالم العربيّة وما يجاورها. توجد دول مقبلة على الزوال. لم يعد من يتحدث عن السودان الذي يصعب انتشاله من الأزمة المصيريّة التي يمر فيها منذ اندلاع الحرب بين الجنرالين عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). كان لا بدّ من تجدد المعارك في الخرطوم وتبادل الشروط بين البرهان و"حميدتي" كي يعود ذكر للحدث السوداني الذي كان شاغل العالم قبل فترة قصيرة، أي قبل إندلاع حرب غزّة في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي. كان ذلك بعد يوم واحد من الذكرى الخمسين لحرب تشرين أو أكتوبر بين إسرائيل من جهة وكلّ من مصر وسوريا من جهة أخرى.

طغت حرب غزّة على كلّ ما عداها من احداث عالميّة، بما في ذلك الحرب الأوكرانيّة المرشحة لأن تدخل في 24 شباط – فبراير المقبل سنتها الثالثة. شعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرّة الأولى منذ شنّه حربا على أوكرانيا، مستندا إلى حسابات خاطئة، بنوع من الإرتياح. سمح له ذلك بالقيام بجولة شملت دولة الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعودية و"الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران التي تبين في كلّ يوم أكثر عمق التحالف العسكري بينها وبين روسيا.

تعيش المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج على وقع حرب غزّة التي كشفت إسرائيل التي تبدو عاجزة عن تحقيق انتصار ساحق على حركة مثل "حماس". استطاعت "حماس" تحدي إسرائيل بكلّ ما تملكه من قوّة، بعدما كانت في الماضي أحد رهاناتها في مواجهة خيار الدولتين. للمرّة الأولى منذ قيام الدولة العبريّة في العام 1948، يبدو واضحا أن مستقبل اسرائيل على المحكّ. تبدو إسرائيل في حاجة ملحّة، أكثر من أي وقت، للدعم الأميركي بعدما كان بنيامين نتانياهو في الماضي القريب يتحدّى المقيم في البيت الأبيض (باراك أوباما) في عقر داره. في عهد أوباما، ذهب "بيبي" إلى واشنطن والقى خطابا أمام مجلسي الكونغرس... وتجاهل البيت الأبيض كلّيا. هذه أيّام ولّت، لكنّه ليس معروفا هل من سياسة أميركية تجاه إسرائيل وتجاه ما يجب فعله لوقف جرب غزّة، أقلّه من أجل الحد من الخسائر البشرية.

لم تطغ حرب غزّة على الحدث السوداني فقط. لم يعد من كلام عن مصير النظام السوري الذي قتل من السوريين والفلسطينيين (مخيّم اليرموك قرب دمشق) أضعاف ما قتلته إسرائيل من فلسطينيين في غزّة. أكثر من ذلك كلّه، إذا كانت إسرائيل تنوي تهجير مليوني فلسطيني من غزّة، فإنّ النظام السوري، بدعم إيراني وروسي، هجّر من العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبيّة في هذا البلد ما يزيد على 12 مليون سوري إلى لبنان والأردن وتركيا ودول مختلفة بعيدة أو قريبة... أو في الداخل السوري نفسه!

لم يعد يوجد من يتحدث صراحة عن العراق حيث نفذت إيران، عبر حكومة محمّد شيْاع السوداني، إنقلابا داخليا وضع حدّا لأي محاولة لإستعادة القرار العراقي المستقلّ وإن نسبيا. فرضت "الجمهوريّة الإسلاميّة" في العراق أمرا واقعا يتمثّل في أن الميليشيات المذهبيّة التابعة لـ"الحرس الثوري"، والعاملة تحت لافتة "الحشد الشعبي"، هي الدولة العراقية. لم يعد زعماء هذه الميليشيات يخفون ذلك. ليست الهجمات التي تشنها ميليشيات عراقيّة على قواعد اميركيّة أو على السفارة الأميركية في بغداد سوى أعمال تندرج في سياق الإستراتيجيّة الإيرانية والمشروع التوسّعي لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة".

في لبنان وفي ضوء حرب غزّة، ينحصر الاهتمام العالمي بالبلد بزاوية واحدة، زاوية عدم توسيع الحرب بين إسرائيل و"حماس" لتشمل الجنوب اللبناني. لا إهتمام بما إذا كان لدى لبنان رئيس للجمهوريّة أم لا. لبنان بلا رئيس للجمهوريّة منذ سنة وشهرين تقريبا. لا يغيّر ذلك شيئا في نظرة العالم إلى لبنان. لا يريد العالم سماع شيء عن لبنان باستثناء ما يتعلّق بتوسع الحرب أو عدم توسعها بناء على رغبة إيران التي تتحكّم بقرار "حزب الله".

غطت حرب غزّة على ما يشهده العالم من احداث كبيرة. كلّ ما في الأمر أنّ "حماس" استطاعت، شئنا أم ابينا، طرح مصير إسرائيل على طاولة البحث. لن تخرج الحركة منتصرة من حرب غزّة، لكنّ الأكيد أنّ عليها أن تتغيّر إذا كانت تريد أن تستمرّ. ستكون السنة المقبلة سنة حاسمة. لن يكون السؤال المطروح مرتبطا بمصير إسرائيل فحسب، بل بدورها في المنطقة وموقعها فيها أيضا. كذلك سيكون مطروحا معرفة هل حرب غزّة ستتوسّع نعم أم لا؟ الأهمّ من ذلك كلّه، إلى أي حدّ ستتمكن إيران من الإستفادة من حرب غزّة وتسجيل مزيد من النقاط على غرار ما فعلته في العراق.

كانت 2023 سنة العجائب والغرائب والمفاجآت الكبيرة. من حسن الحظ أن هناك دولا عربيّة ما زالت تفكّر في المستقبل وكيفية التعاطي معه بعيدا عن اسر الماضي وعقده. تشير إلى ذلك الزيارة التي قام بها المك محمد السادس لدولة الإمارات والإتفاقات التي وقعها مع رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد. إن دلت طبيعة هذه الإتفاقات على شيء، فهي تدلّ على أن في هذا العالم العربي من لا يزال يفكّر في التنمية ورفاه الشعوب بدل الغرق في مزيد من العنف، وهو غرق تلتقي عنده الحركات المتطرفة واليمين الإسرائيلي والمشروع التوسعي الإيراني بأدواته المختلفة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان...

نعم، لا يمكن المرور مرور الكرام على الزيارة التي قام بها محمّد السادس لأبوظبي. كشفت الزيارة وما اسفرت عنه، على الرغم من كلّ المآسي في غزّة وغير غزّة، وجود لغة جديدة تستخدم في مجال التعاون والتفاهم بين دولتين عربيتين وبين زعيمي هاتين الدولتين. يشكل ذلك تطوّرا غي غاية الأهمّية في هذه الظروف بالذات. إنّه رفع لمستوى الخطاب العربي ليس إلّا...