كيف تؤثر الأسطورة في فهم الدين.. البغوي عندما القرآن

عبر هذا التاريخ الضارب في البعيد كان الخيال هو محرك هذه العقول العاجزة أو المتوقفة في زمنها وحدودها الجغرافية وكانت المادة المقدمة تميل للغة الأدب أكثر من اللغة العلمية الخالصة والمحكمة وكان الإمام البغوي نصيب كبير في هذه التفاسير المتخيلة والواصلة إلى الحدود الأسطورية واُنتجت في عالمها.

بقلم: طارق سعيد أحمد

تزدحم كتب التراث الإسلامي بأسماء عديدة تراكمت خلال عشرات مئات السنوات، وكان لكل حقبة تاريخية حزمة من هؤلاء الذين كانوا من علية القوم وعلماء عصرهم يفسرون القرآن الكريم، وكان لكل منهم ملكته الخاصة وأسلوبه في عرض رؤيته، وذلك كان السبيل الوحيد لشُح النظرة العلمية والأبحاث حول قضية ما بعينها، وضمن تلك الرؤى التي انتجت عبر هذا التاريخ الضارب في البعيد كان الخيال هو محرك هذه العقول العاجزة أو المتوقفة في زمنها وحدودها الجغرافية، وكانت المادة المقدمة تميل للغة الأدب أكثر من اللغة العلمية الخالصة والمحكمة، وكان الإمام "البغوي" نصيب كبير في هذه التفاسير المتخيلة والواصلة إلى الحدود الأسطورية وانتجت في عالمها.

حيث يقول الإمام "البغوي" في كتابه المعنون بـ "تفسير معالم التنزيل" في تفسيره للآية (21) من سورة "الملك" نصا: "وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، فحملهم الريح، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: يدين بدين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، فقالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى".

فمن الملاحظ في هذه الفقرة تأكيد "البغوي" على أن ما ذكره تحدث عنه العلماء من قبله ولكنه لم يذكر اسم أحدهم رغم المعلومات المدققة بالأرقام! ويقول: "البغوي" في تفسير الآية الكريمة نفسها: "فلما نزل قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك، فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان "يعفور" واسم هدهد اليمن "عنفير"، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود.فقال: ومن سليمان؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن كلها، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر. قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا، فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير - وهو النسر- فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، وما أرسلته مكانا، فغضب عند ذلك سليمان، وقال: (لأعذبنه عذابا شديدا) الآية".

فتعتبر هذه الفقرة الأكثر خيالا، فقد ذكر "البغوي" بعلمه الخاص غير المسند إلى أي شيء اسم هدد سليمان والهدد اليمني صديقه بل وذكر حديثهم الذي دار بينهم!

في الفقرة الأخير من تفسير الأية 21 من سورة (الملك) والتي من خلالها نحاول أن نتلمس خيط من خيوط المنطق يُكمل "ثم دعا العقاب سيد الطير فقال: على بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده، فقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، قال: فولى عنه العقاب، وقال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ ولقد توعدك نبي الله، وأخبراه بما قال، فقال الهدهد: أوما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: "أو ليأتيني بسلطان مبين"، قال: فنجوت إذا، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا، فقال الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عنه في قوله: "فمكث غير بعيد".

انتهى إلى هذا الحد التفسير الذي لم يفسر بل بالأحرى ضلل وأغرق الآية الكريمة في بحر الأسطورة والخرافة.

  • هامش: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوى هو الإمام البغوي المتوفي سنة 516 هجرية من أهم علماء أهل السنة والجماعة والملقب بـ "محيي السنة"، وقال عنه ابن كثير: أنه برع في العلوم وكان علامة زمانه، وقال عنه ابن العماد الحنبلي: أنه المحدث المفسر صاحب التصانيف، عالم أهل خرسان.