لا ديموقراطيّة بالعراق، بل استبداد وطغيان وعنف وفساد

العراق مثال على الدولة التي تنتحر ولا تقتل كما يظن البعض.

منذ الاحتلال الاميركي للعراق والحديث يدور عن الديموقراطية وسبل تحقيقها، والتي تمّ تسويقها أي الديموقراطية عراقيّا بأبشع واسوأ صورة مدمرّة أي صورة المحاصصة الطائفية القومية. ولم يتم التطرق الّا ما ندر عن الاستبداد بأشكاله المختلفة والذي هو بالحقيقة السمة الممّيزة للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما ينتج عنه من طغيان وعنف كبلّت البلاد والمجتمع وفرضت نموذجا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا فاشلا يقود البلاد الى نهايات كارثيّة، وفي الحقيقة فأنّ الاستبداد وما ينتج عنه عمره من عمر الدولة العراقية الحديثة، إذا ما تجاوزنا الاستبداد في ما قبل الاحتلال البريطاني للبلاد.

الحديث عن الاستبداد في العراق "الديموقراطي" اليوم أشبه بالتابو، فالسياسيون يبتعدون عن الاشارة الى الاستبداد رغم وضوحه كما الشمس في رابعة النهار كما تقول العرب. والمثقّفون والمفكرّون والواعون من أبناء العراق على قلّتهم مقارنة بالغالبية الجاهلة، منقسمون تجاهه نتيجة ميلهم لهذه الجهة المستبدة أو تلك، أو الخوف الذي يمنعهم نتيجة العنف الذي تمارسه الميليشيات من إبداء آرائهم علانيّة.

الاستبداد والطغيان وهما متلازمان دوما باعتبارهما مكملّان لبعضهما البعض، عرفا تاريخيا من خلال أنظمة مستبدّة عن طريق حاكم متسلّط أو ما يُطلق عليه دكتاتور، أي الحاكم الذي لا يحكم بلاده بنظام ديموقراطي متعدد وتبادل سلمي للسلطة من خلال الآليات الديموقراطية. وفي العراق كانت لدينا تجربة مثل هذه الأنظمة الدكتاتورية لعقود. وشعبنا ونخبه المثقفة مسؤولة عن أنتاج وديمومة مثل هذه الأنظمة الاستبدادية، وهي بذلك لا تختلف عن شعوب ونخب ثقافية ساهمت في أنتاج أنظمة استبدادية أذاقت شعوبها الويلات في مناطق أخرى من العالم.

الديموقراطية أشبه بالهرم وقاعدة الهرم هي من تمتلك الرأي الفصل في شكل النظام وطبيعة السلطة. أمّا في الأنظمة المستبدة والدكتاتورية فأنّ رأس الهرم هو من يحدد شكل النظام وطبيعة السلطة. وبدلا من أن تُسنّ القوانين من أسفل الى أعلى، نرى القوانين تُسنّ من الأعلى وفرضها على قاعدة الهرم بأساليب متعددة.

هناك آراء تذهب الى أنّ المستبد قد يكون مصلحا يريد رقيّ شعبه ووطنه، لكنّه في النهاية هو طاغية يمارس العنف تجاه جزء من المجتمع الذي يرفضه، وهناك في نفس الوقت من يؤيدّه في ذلك المجتمع، وهذا يؤدي الى زرع أولى البذور في تقسيم المجتمع وهذا ما حدث بالعراق الذي خاض مثل هذه التجربة السياسية التي كان فيها شخص واحد على رأس الهرم له أتباعه وله مخالفيه. لكنّه وإن كان عادلا سيظل دكتاتورا من حيث تمركز السلطة والقرارات السياسية والاقتصادية عنده. فالأنظمة المستبدة ومنها أنظمة الفرد والحزب الواحد تستخدم القوّة في استمرار الطغيان والاستبداد والعنف والفساد لتستمر في السلطة لأطول فترة ممكنة، وعكسها الأنظمة الديموقراطية التي تستخدم قوّة اخرى، هي قوّة القوانين لتوزيع العدالة وبناء دولة مؤسسات.

العلاقة بين الفساد والاستبداد متبادلة ووجود احدهما يعني بالضرورة وجود الآخر، فهل شيوع الفساد على مختلف الصعد بالعراق اليوم يعني أن هناك استبدادا وطغيانا وعنفا؟ لو نظرنا الى الواقع السياسي بالبلاد اليوم فإننا نرى ثلاثة أهرامات تشكّل العملية السياسية فيها، وهي الأهرامات الشيعية والسنيّة والكردية. وهذه الأهرامات تتحكم بسياسة البلاد واقتصادها من خلال قممها، ولا دور لقواعد الأهرامات هذه في رسم سياسة البلاد بالمطلق. خصوصا وأنّ قمم هذه الأهرامات تلتقي بقمّة رابعة لهرم رابع وهو هرم المحاصصة الطائفية القومية. وهنا يكون الطغيان متعددا وليس طغيان فرد حاكم. ففي الهرم الشيعي هناك طغيان المؤسسة الدينية الشيعية والأحزاب والميليشيات والعشائر الشيعية، ومثله في الهرم السنّي، وكذلك في الهرم الكردي حيث حكم العائلتين الحاكمتين.

الطغاة الجدد بالعراق اليوم كما الذين سبقوهم لا يستطيعون الاستمرار في استبدادهم وطغيانهم وعنفهم وفسادهم، لولا استعداد الجماهير لقبول الطغيان وتأليه الطغاة من جهة، وغياب دور المثقف العضوي في الوقوف بوجه الطغيان وأدواته.

يقول الفيلسوف والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي أن "الأمم لا تموت قتلاً وإنما انتحاراً"، واليوم ونحن نعبد رجل الدين وزعيم القبيلة ونخاف الميليشيات ونعيش مع الفساد والجهل دون أن نشعر بمستقبل وطننا وأجيالنا القادمة، فإننا نحتضر وانتحارنا مسألة وقت ليس الّا.