لا يكن لكم وطن غيري

ليس اللبنانيون ضد إيران وحزب الله لأنهما شيعة، وليسوا مع القوى السنية الوطنية لأنها سنية. الخيار الوطني يحدد الـمعية بمنأى عن الانتماء الطائفي.
لم يفرز المجتمع اللبناني منذ عقود دولة مهابة ولا ثورة جدية ولا زعيما تاريخيا
اللبنانيون خوّنوا بعضهم بعضا في جميع المراحل كأنهم ينتمون إلى منظومة "تخوين وطني"

اللبنانيون من مختلف الطوائف معنيون أخلاقيا وجغرافيا بالصراع العربي ــــ الفارسي في المنطقة، فهم ينتمون إلى العالم العربي. ومعنيون أخلاقيا ووطنيا بالنزاع بين السنة والشيعة في لبنان، فهما مكونان أساسيان في الشراكة الوطنية. أن نكون معنيين لا يبرر مطلقا الانحياز عسكريا إلى الصراع في المنطقة، ومذهبيا إلى النزاع في لبنان. وأن نكون حياديين لا يعني أن نساوي بين من يساعد دولة لبنان وشعبه في كل المجالات (دول الخليج العربية)، وبين من يواصل الهيمنة على دولة لبنان والإساءة إلى شعبه (إيران وحلفاؤها). وأن نكون حياديين لا يعني أيضا أن نساوي بين من التزم مشروع الدولة (غالبية السنة)، وبين من يلتزم مشروعا مناقضا الدولة (حزب الله).

ليس اللبنانيون ضد إيران وحزب الله لأنهما شيعة، وليسوا مع القوى السنية الوطنية لأنها سنية. الخيار الوطني يحدد المعية بمنأى عن الانتماء الطائفي. أصلا ليس الحياد الامتناع عن الدفاع عن النفس وعن استقلال كيان لبنان وسيادة دولته ومصالح شعبه أكان المعتدي لبنانيا أو غريبا. حدود الحياد هي حدود سيادة لبنان. وحدود السيادة ألا يعتدي أحد علينا وألا نعتدي على أحد.

في هذين الواقعين اللبناني والإقليمي ينحاز لبنان إلى ذاته. فلبنان، شعبا ودولة وكيانا ونظاما، يتعرض اليوم لحرب غير معلنة، ولانقلاب من دون بلاغات. تجاه هذه الحالات، تستسلم الشعوب أو تقاوم. وحسبي أن اللبنانيين أهل مقاومة (وإن الأمس لذاكره قريب). لذلك لا حرج في اتخاذ موقف صريح وشجاع لصد الحرب ووقف الانقلاب هذا لا ينتهك مفهوم الحياد. مؤسف أن يفرض علينا حزب الله وإيران، رغما عنا، هذا الموقف، فيما نطمح إلى أفضل صداقة مع إيران وأحسن شراكة مع جميع شيعة لبنان. يزعم حزب الله أنه لا يوجه سلاحه نحو الداخل اللبناني (!!!)، لكن مواقفه وتصاريحه ضد شركائه في الوطن وأصدقاء لبنان مؤذية أكثر من سلاحه. السلاح يقتل فردا بينما الموقف يقتل وطنا.

أنتمي شخصيا إلى جيل سمع في فتوته أن السنة سبب مشاكل لبنان ("العروبة أولا"). وبلغت جيلا يسمع أن الشيعة أمسوا سبب مشاكل لبنان ("إيران أولا"). وفي زمن "المارونية السياسية" كنت أسمع أن الموارنة يهيمنون بصلاحياتهم الواسعة على دولة لبنان وهم انعزاليون ("لبنان أولا وأخيرا"). مع أني ضد هذا التعميم الطائفي، خون اللبنانيون بعضهم بعضا في جميع المراحل كأنهم ينتمون إلى منظومة "تخوين وطني" لا إلى منظومة "شراكة وطنية". ليتني ألحق جيلا يرى كل مكونات لبنان قد صارت عنوان نجاحه وسلمه وتألقه وازدهاره وحفرت في قلوبها: "لبنان أولا وأخيرا".

هذه الموروثات المشككة والمنتشرة في المجتمعات اللبنانية، لم تنهك فقط لبنان الكبير في المئة سنة الماضية بل - وهنا الخطورة - جعلت اختيار شكل لبنان الجديد أمرا في غاية الصعوبة. فواقع لبنان الحالي لا يتناسب مع أي نظام حضاري، حصريا كان أو اتحاديا، مركزيا أو لامركزيا، ديمقراطيا أو ديكتاتوريا، محايدا أو منحازا. جسم لبنان السياسي والديمغرافي وبحكم تفتته وعجز قياداته لبيس مشاكل لا حلولا. يجب انتظار زوال الورم حتى يلبس نظاما على قياسه.

هذيان، بل خيانة أن نفكر بحلول عسكرية حين الحلول السلمية متاحة. لكن طبيعة النزاع الحاد ونوعية المشاريع المتصارعة في لبنان والـمنطقة وعقدة سلاح حزب الله، توحي جميعا (وهذه ليست أمنيتي) أن أي حل للبنان بات يستلزم تدخلا عسكريا لمنع نشوب حرب أهلية، للحؤول دون زوال لبنان، ولمساعدة اللبنانيين على إرساء نظام جديد. القوى السياسية الأسيرة والمرتهنة لمئة دولة ودولتين عاجزة عن إعادة توحيد الدولة سلميا، وعن اعتماد أي صيغة دستورية أخرى سلميا أيضا. نعيش مأزق اللاحل الناتج عن اللادولة الناتجة عن منطق السلاح الناتج عن اللاولاء للبنان.

علاوة على الصلاة، ربما كانت هذه الهواجس في ذهن وزير خارجية الفاتيكان حين كرر مخاوف البابا فرنسيس على مصير لبنان. وهي مخاوف تلتقي مع تصريح سابق لوزير خارجية فرنسا. وحين تصبح دولة معرضة للزوال يتأكد أنها دولة فاشلة. وفشل لبنان لم يتأت بسبب التدخلات الخارجية تحديدا، بقدر ما نشأ تدريجا بسبب إخفاق بنيه عن الاتفاق على الحياة معا، على تحييد وطنهم، وعلى هوية الدولة ونظامها ودورها. لـما كان لبنان تحت الاحتلال المباشر كان دولة محتلة لا فاشلة.

للخروج من الفشل، نحتاج إعادة تأهيل وطني وثقافي وحضاري. نحتاج أن نستعيد النطق المهذب والحوار الراقي والذوق الرفيع وقواعد الشراكة الوطنية وفرح الاعتراف بالآخر. نحتاج أن نسترجع حاسة التمييز بين الحياد والانحياز والوطنية والخيانة والإخلاص والعمالة والصداقة والتبعية. نحتاج إلى دورات تدريبية على احترام الدستور والقوانين والمؤسسات، وإلى دروس تطبيقية في حفظ النشيد الوطني وإنشاده، في معنى وحدة الولاء، ولبنان أولا، ونهائية لبنان، و"أنا هو لبنان وطنك، لا يكن لك وطن غيري".

في العقود الأخيرة ووسط الانهيار الشامل في السنوات الجارية، وضع الاحتلال أجيالا لبنانية خارج مفهوم الدولة والسيادة والعزة حتى صارت تعتبر هذه الأساسيات كماليات. أقام الاحتلال حاجزا بين اللبنانيين ومحيطهم العربي وتقاليدهم والنظام والقوانين، وفصلهم عن مجدهم وعظمائهم وتاريخهم، وقدم إليهم زمنا اختزله بوجوده، وولى عليهم تبعيين بثياب رؤساء ووزراء ونواب وقادة. غيب اللبنانيون عن الحضارة والثقافة والحياة المدنية حتى صعب على كثيرين منهم التفريق بين الجمال والقبح في الألوان والكتابة والموسيقى والأغاني والفنون. كانت بطاقة "تسهيل المرور"، بالنسبة لبعض اللبنانيين، أهم من بطاقة الهوية اللبنانية، و"مركز عنجر" أهم من معركة عنجر (03 تشرين الثاني/نوفمبر 1623).

الخروج من هذه الغيبوبة التاريخية لا يستلزم تطبيق الدستور أو تعديله فقط. مشكلة لبنان في مكان آخر: هي هناك حيث البؤر الأمنية والثغرات الحضارية والفجوات الثقافية والاختلاف في أنماط الحياة. هي هناك حيث الولاء للغرباء، وعصيان نهج الحياد والثوابت التاريخية والابتعاد عن الدول المتقدمة. هي هناك حيث لم يفرز المجتمع اللبناني منذ عقود دولة مهابة ولا ثورة جدية ولا زعيما تاريخيا، فيما الحاجة قصوى والتربة خصبة لينبت فيها ومنها أكثر من ثورة وأكثر من زعيم في دولة واحدة.