لماذا تصاعدت انتقادات واشنطن وحلفائها لإسرائيل.. ستة أسباب جوهرية

لا يستطيع الغرب الذي يباهي بمنظومته الأخلاقية، أن يتقبل كل هذه المآسي التي يتعرض إليها الفلسطينيون.

تصاعدت بشكل تدريجي الانتقادات الأميركية والغربية لإسرائيل بسبب حربها في قطاع غزة، أو لنكون أكثر دقة بسبب تخبطها وعدم فعاليتها في تحقيق الأهداف المتفق عليها بينهما بالسرعة الكافية. وقد بلغت ذروة تلك الانتقادات والضغوطات في مكالمة بايدن الأخيرة مع نتنياهو، حيث أنذره كما قالت مصادر عبرية بأن واشنطن لن تدعم إسرائيل إذا لم تتغير سياستها.

ومع التأكيد على عمق العلاقة الرابطة بين الاحتلال وداعميه الغربيين، وعلى رأسهم واشنطن، وأن تلك العلاقة لن تتغير بسبب الدم الفلسطيني في غزة، ومع التأكيد أيضا على أن السياسة أفعال لا أقوال، وأن الديبلوماسية تسعى في أحد أهدافها للتضليل والخداع عبر تزيين الأفعال السيئة للدول بغلاف تجميلي من الأقوال اللطيفة، إلا أننا نتصور أن الخلاف الغربي مع الاحتلال جدي جدا هذه المرة، ونتوقع أن يؤثر على سلوكه الميداني ولو جزئيا.

ومن الطبيعي أن نكون متفقين بعد تجربتنا الأليمة مع الجرائم الإسرائيلية أن تلك الضغوطات الغربية لا تنبع من حرص على الدم الفلسطيني، بل من حرص على إسرائيل ذاتها، فالغرب بات مدركا أنها تتصرف برعونة وحمق وتخبط سينعكس عليها آجلا أو عاجلا، كما سينعكس على المصالح الأميركية والغربية في المنطقة العربية ومحيطها، بل وفي العالم كله.

فما هي الأسباب التي دفعت لذلك؟

قد يكون من أهم أسباب الخلاف الأميركي مع الاحتلال هو عدم فعاليته وإخفاقه، فالخلاف ليس حول قتل الفلسطينيين وإنما حول طريقة قتلهم، بمعنى أن حلفاء الاحتلال يقدرون بأنه نجح في التدمير والقتل، لكن الهدف المنشود وهو القضاء على حماس لم يتحقق، ودليلها على ذلك الفشل في تحرير الأسرى، والفشل في القضاء على قيادة حماس كهيكل قادر على اتخاذ القرار، وهذا الفشل إضافة إلى الفشل في السابع من أكتوبر يثيران الأسئلة بخصوص كفاءة منظومات الاحتلال الأمنية والعسكرية مقارنة بما تحصل عليها من دعم غربي مهول، ففي النهاية لا توجد دولة تنفق أموالها دون أن تحصل على نتائج تستحق، وهذا الاحتلال وُجد أساسا لخدمة مصالح غربية في غاية الأهمية، والنتيجة التي يتوقعها الغرب مع هذا الكم الهائل من السلاح والدعم أن تدخل إسرائيل غزة وتقضي على كتائب حماس العسكرية وتعتقل قياداتها وتخرج الأسرى خلال أيام معدودة، ثم تخرج بسرعة دون مشاهد دموية واستنزاف طويل، كما فعلت في حروب سابقة مع دول عربية.

ومع هذا عدم الصهيوني في تحقيق تلك الصورة؛ تتوقع المنظومة الغربية المعادية أن تؤدي المشاهد الدموية التي تُبث من غزة إلى تصاعد الغضب الإسلامي في نفوس آلاف الشباب، وهو ما قد يظهر كردة فعل على هيئة عمليات انتقامية على غرار الحادي عشر من سبتمبر، أو، وهو الأخطر من وجهة نظرها، على صورة جماعات وتنظيمات جديدة أكثر ذكاءً وعمقا استراتيجيا، تسعى لتغيير الواقع بشكل جذري.

ومما يزيد من مخاطر ذلك مشاهد المجاعة التي قد تتفاقم في أي لحظة، فالغرب يدرك أن إسرائيل بلغت من الإجرام والعنجهية أنها لن تتراجع حتى لو مات جوعا مئات آلاف الفلسطينيين شمال قطاع غزة، بل إنها حريصة على ذلك حتى لو لم تعلن.

ولأن لكل فعل رد فعل، قد يحدث ذلك في أي لحظة، حتى لو تصور الكثيرون أن الأمة ميتة، لكن الحقيقة التي لا يجهلها الغرب أنها زاخرة بمئات آلاف الشباب أصحاب الرسالة، الذين قد يطورون أدوات عمل قادرة على تجاوز منظومة القمع العربية بشكل فعال، خاصة بعد تجربة السابع من أكتوبر، التي قد تكون ملهمة لكثير من المهتمين، بما تضمنته من نجاحات أمنية خدعت العدو، وعسكرية أدت إلى انهياره لساعات.

كما قد يوقظ ذلك أيضا، خاصة مع حالة الفوضى الضاربة أطنابها في المنطقة العربية، ما يسميه الغرب المارد الإسلامي النائم، في نسخة أكثر تطوراً من الربيع العربي، وهو ما يعني بالضرورة خطرا على عدد من الأنظمة العربية، التي قد تسقط بدورها أو تضعف أمام ضغط الغضب الجماهيري، ومع أن بوادر ذلك لم تظهر حتى اللحظة، لكن انفجار الجماهير لا علاقة له بما يظهر فوق السطح، وإنما بما يموج في باطنه، ويتكثف رويدا رويدا حتى يراه الناس صاعقا ومفاجئا، بتأثير حدث صغير لا يستحقه ولا يفسره.

وهذا يضر بشكل قاطع بالمصالح الغربية، التي ترى في بعض هذه الأنظمة شركاء، لا يقلون في أهميتهم وخدماتهم وأحيانا قدراتهم عن الكيان ذاته، فكيف ستسمح للاحتلال في الاستمرار بتقويض شرعية تلك الأنظمة والإضرار بها.

كذلك من الأسباب، أن استمرار الحرب يهدد بتحويلها إلى صراع إقليمي مفتوح سيضر حتما بالمصالح الغربية. وأبلغ تعبير عن ذلك مشاركة اليمنيين في حصار الاحتلال بمهاجمة سفنه، وتلك المتوجهة إليه، وهو ما تطور إلى عدوان أميركي بريطاني، ورد فعل يمني عليهما. كما قد يتوسع الصراع مع حزب الله إلى حرب مدمرة، كذلك قد تنجر إيران -رغم أنها لا تريد ذلك- إلى الحرب جزئيا أو بشكل كامل، وهو ما يبدو أقرب من ذي قبل بكثير مع قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، ولنا أن نتخيل تأثير ذلك على الاقتصاد وحركة التجارة والنفط على مستوى العالم.

ومن النتائج التي قد يقود إليها العدوان الحالي، ويرى فيها الغرب سببا لدفع الاحتلال لتغيير سياسته، التأثير الهائل لما يحدث من جرائم على الأجيال الفلسطينية الحالية أو القادمة، حيث يدرك كثيرون أن الجيل الذي شارك في أحداث السابع من أكتوبر كان في مرحلة الطفولة الأولى عام 2008، عندما ارتكب الاحتلال واحدة من أكبر مجازره في قطاع غزة بقصفه المقرات الشرطية والخدماتية بشكل مفاجئ ومرعب.

خاصة أن جرائم الاحتلال في هذه الحرب اقترنت بشكل فج بحجم هائل من الإهانة والمس بالمقدسات، خاصة النساء، وهو ما لم يكن مسبوقا بهذا المستوى، ومن المتوقع أن تكون ردة الفعل عليه غير مسبوقة، خاصة إذا علمنا أن جزءاً مهما من العمليات البطولية النوعية على مدار تاريخ المقاومة الفلسطينية كانت ردا على أفعال مشابهة حدثت مع أفراد، فكيف بها وقد حدثت مع آلاف، وشاهدها أو سمع بها مئات الآلاف، ويرى كثيرون أن من الوهم التصور ولو للحظة أن هذه الجرائم ستمر دون انتقام فلسطيني غير مسبوق، ولو بعد حين.

السبب الأخير للموقف الغربي حرصه على منظومة القيم التي يحملها ويدافع عنها، فهو حريص على أن يظهر احترامه لها سواءً أمام شعوبه أو أمام العالم. فتلك المنظومة تمثل أحد أدواته لمواجهة وفضح خصومه، وتبرير سلوكياته تجاههم، ومن المهم أن ندرك أن الأهداف الأهم لدى أي دولة كبرى، ضمان بقائها، وحماية مصالحها ومصالح مواطنيها، وضمان سيادة القيم التي تحملها ونشر ايديولوجيتها، وإلا لماذا تنفق الأموال الطائلة لنشر تلك القيم، كما أن النظام العالمي السائد حاليا أمميا وقانونيا أحد أدوات حكم واشنطن للعالم، فكيف ستسمح بانهيار صورته بانكشاف عجزه أمام الجرائم الإسرائيلية.

ثم كيف ستبرر دعمها لإسرائيل أمام شعوبها، وهي أيضا رغم انحياز جزء كبير منها للاحتلال، إلا أن أدنى حد من الأخلاق الإنسانية لا يقبل قتل 17 ألف طفل بهذه الطريقة، ولا يمكن أن يبرر ذلك أي شيء حتى لو آمنت تلك الشعوب بأن حماس هي داعش كما يروج نتنياهو.