لوحة سينمائية بألوان الحنين والواقع في 'حياة ماضية'

الفنانة الكورية سيلين سونغ تشحن فيلمها بعصارة تجربتها الحياتية وما كابدته من اغتراب عن وطنها الأم كوريا الجنوبية، ثم انصياعها لما يسمى الأمر الواقع.

يتأرجح فيلم حياة ماضية بين النوستالجيا وبين صلابة الحياة وحدّتها، ولاسيما حينما يغادر الإنسان وطنه، فهو يحمل كلما يتعلق بهذه الوطن من حمولة عاطفية وذهنية وسايكولوجية، ولعل أكثر ما يتأثر به، هو سطوة المكان الأول؛ كملاعب الطفولة والغرفة والمدرسة والشوارع، إضافة إلى شهقة الحياة الأولى والعشق الأول، ونكهة  تلك الأيام التي تهيمن على المهاجر وتجعله متأزما من ركام الغربة.

     هذا ما يمكن أن نستشفه من الفيلم الكوري "past lives" والذي كان من تأليف وإخراج الفنانة الكورية سيلين سونغ . ويبدو أن قصة الفيلم ماهي الا انعكاس لحياة المؤلفة/المخرجة ذاتها، وترجمة لتجارب ذاتية مرت بها في طفولتها وبداية شبابها، حيث هاجرت سيلين سونغ مع أبويها إلى كندا، ثم عملت في أميركا، وتزوجت من الكاتب الأميركي جوستن كوريتزكيس.

 والفيلم هو أول تجربة سينمائية لها، لذلك شحنته بعصارة تجربتها الحياتية، وما كابدته من اغتراب عن وطنها الأم كوريا الجنوبية، ثم انصياعها لما يسمى الأمر الواقع. لذلك نجحت بامتياز في تقديم لوحات سينمائية مفعمة بالروح التعبيرية العالية في تأثيراتها وحركات العيون التي تتأرجح في الفراغ، وارتباك الخطوات وهي تتسكع، والجمل المتقطعة والتي تعجز عن تمرير المعنى، يصاحبها تشنجات الملامح التي تعبر عن طبقات غير مرئية من المشاعر المدفونة تحت غبار الكلمات.

   تبدأ القصة من خلال علاقة حب بريئة بين طفلين تضمهما مدرسة واحدة في سيئول عاصمة كوريا الجنوبية، ولكن الفتاة الصغيرة سونغ نا ترحل مع أبويها اللذين اختارا الهجرة إلى كندا، وكمحاولة منها للاندماج في المجتمع الجديد تغيّر اسمها إلى نورا. وتحاول أن تستفيد من معطيات الحياة الجديدة في كندا، وتطمح أن تكون ناجحة في موطنها الجديد.

وبعد فترة زمنية تقدر باثنتي عشرة سنة، حاولت أن تبحث عبر وسائل التواصل الاجتماعي  عن حبيبها  الأول وزميل طفولتها هاي سونغ، الذي بدوره كان يبحث عنها، وكان اللقاء الافتراضي بينهما عن طريق منصة سكايب قد فتح نافذة لهما أن يتعرفا على تلك الفجوة الزمنية الفاصلة بينهما، وقد كانت اللقاءات والأحاديث اليومية قد تخللها اكتشاف كلٍ منهما للآخر، فقد شعر بأنها قد فقدت اللكنة الكورية وفقدت اسمها، بينما وجدت فيه نوعا من الأمل غير المُجدي لأنه طموحاته بقيت دون سقف ما تصبو إليه.كما أن التكرار للأحاديث الافتراضية سيظل مجرد ثرثرة عقيمة، يعزز ذلك الفارق في التوقيتين  الكندي والكوري.

  لاشك بأن نورا كانت تبحث من خلال التواصل الافتراضي الذي لا تملك غيره عن سنوات طفولتها، عن أجواء الأحياء الشعبية، عن براءة العواطف التي لم تصطدم بجدران الواقع. أما هاي سونغ  فيبحث أيضا عن عطر الذاكرة المتمثل في نورا ، ورغم مرور السنوات ولكنها لم تنسه هذا العشق الذي انطفأ في بداياته، وظل يحلم بالعثور عليها وربما إعادتها إلى الوطن.  

    تمضي حياة نورا مع الدراسة والعمل وتتعرف على آرثر الأميركي الذي يعمل في إطار فكري يشبه اختصاصها، ويتحول هذا التقارب والعلاقة المهنية إلى علاقة حب وجذب، وينتهي بالزواج.  وبطبيعة الحال، فنورا لا تخفي عن زوجها آرثر ميولها العاطفية السابقة وعشقها لرفيق طفولتها. وبموافقة زوجها تتمنى أن تراه، وفعلا يتم اللقاء في نيويورك، حيث يأتي هاي سونغ لزيارتها، ونكتشف من خلال اللقطات المتتابعة بأن الأثنين (نورا و سونغ) قد استسلما لما يسمى عند العقيدة البوذية(إن ين) وهو مرادف لفكرة "المكتوب" في ثقافتنا وموروثنا الشرقي، ذلك القَدَر الذي ينسج قواعده الصارمة التي تجعل الناس منجذبين ومرتبطين مع بعضهم برباط الزواج، ورغم أن دلالات "المكتوب أو إن ين" غير علمية في فحواها ولا تستند إلى تفسير عقلاني، ولكن الكثير من الناس يؤمن بها، ومنهم مؤلفة الفيلم ومخرجته والتي قدمت لنا هذا العمل بجرأة وواقعية، لتتخذ مسارا معاكسا لقصص الحب الرومانسية، والتي تجعل العشيق الأول جديرا بحبيبته، وإن الزوج ما هو إلا شخص شرير استولى على حبيبة ينبغي أن لا تكون له.

 لقد قدمت الزوج كإنسان نبيل ومتفهم وجدير بالمحبة والوفاء، كما قدمت الحبيب السابق كضيف قادم من زمن ماض، فهو جدير بالاحتفاء من ناحية وحدير بالوداع النهائي من ناحية أخرى.

 كانت جولة نورا وسونغ في الأمكنة السياحية من نيويورك حافلة بالصمت وبالإيماءات الخجولة والحوارات والأسئلة، ولكنها بالمجمل تكشف لنا عمق الفجوة الفاصلة بينهما، فالزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء أبدا، وإن الكثير من المستجدات التي طرأت على نورا، ومنها الزواج من شخص آخر والذوبان في ثقافة أخرى، والاندماج الكلي في المجتمع الجديد والذي يتمثل أيضا في هجر اللغة الأم واستبدالها بلغة الحياة الجديدة التي تتمثل باللغة الإنجليزية بدلا من الكورية.  إنه الانفصال الكلي عن أحلام الطفولة وذكريات المدن الأم بشوارعها وبيوتها ومدارسها، إنه الانعتاق من الماضي بحلوه ومره، والاستغراق بالحاضر والاندماج معه بشكل كلي.

 لقد كان لقاؤها بحبيب طفولتها وبرفقة زوجها نوعا من التحدي للماضي، من أجل الانسلاخ عنه. 

 لقد خلا الفيلم من العنف والمواجهة والصراع العاطفي، ولم لم يتميّز بالإثارة والتشويق. ومع ذلك فقد نجح في الهيمنة على مشاعر الكثير من الذين شاهدوه،لأنه اكتسب صبغة تأملية حول العلاقات الإنسانية، كما طرح أسئلة حادة عن الهجرة والاغتراب، كما تناول حقيقة أن المتغيرات في الواقع الحياتي قادرة على إزاحة الأحلام واستبدالها بحقائق ملموسة.