لو لم يكن هيثم الزبيدي ما كنت الآن هنا

كلما رأيت مواد من ميدل إيست أونلاين متداولة في مواقع أخرى تذكرت مقولة د. هيثم إننا مثل الوكالات العالمية، الكل ينقل عنها نقلا مشاعًا.

لم أتذكر كيف تعرفت إلى موقع "ميدل إيست أونلاين" في بداية الألفية الجديدة، ولكن وقتها كان النشر الإلكتروني يمثل هاجسًا مُلحًا بالنسبة لي، وأدركت أنه سيكون له المستقبل، وأنه في وقت من الأوقات سيقضي على النشر الورقي، خاصة أننا كنا نعاني بعض الشيء في نشر أعمالنا وكتاباتنا في المجلات والصحف الورقية، بل كنا نعاني بعض الشيء في سبيل وصول إنتاجنا لعدد من تلك المجلات والصحف الورقية. وما أن اكتشفتُ عملية النشر الإلكتروني، إلا وسرعان ما تفاعلت معها، وأخذت اقرأ الكثير حولها، وأدخل في تجارب عملية معها إلى أن وضعت كتابًا بعنوان "أدباء الإنترنت أدباء المستقبل" عام 1996، وتوقعت أن تسهم شبكة الإنترنت في القضاء على مركزية الصحف والمجلات في العواصم الكبيرة، وخاصة القاهرة.

كنت أتابع في صباح كل يوم بزوغ عدد من المواقع والصحف والبوابات الإلكترونية، وأراسل بعضها، إلى أن اكتشفت "ميدل إيست أونلاين"، وأرسلت مقالا لرئيس تحرير هذا الموقع – عن طريق البريد الإلكتروني المدوّن به - دون أن أعرفه، وهو دكتور هيثم الزبيدي، وسرعان ما أخذ المقال طريقه للنشر في أقل من ساعتين، وبإخراج فني جميل. أعجبتني طريقة نشر المقال فكان متميزًا عن مواقع أخرى كثيرة. وسرعان ما توطدت العلاقة بيني وبين د. هيثم الزبيدي، وكنت أحيانا أرسل له مقالين في اليوم الواحد. كنت سعيدًا بهذا النشر في ميدل إيست أونلاين.

وذات مرة أحببت أن أعرف عدد قراء المقالات التي أنشرها في ميدل إيست أونلاين، فسألته، وأخبرني أن عدَّاد القراءات بالموقع يشير إلى عدة آلاف في أول يوم، ويزداد بعد ذلك، وكان هناك مقال نشرتُه عن كتاب بعنوان "باريس عاصمة عربية" وأخبرني أن عدد الزوار بلغ أكثر من 37 ألف زائر في الساعات الأولى من نشره.

واكتشفت أن هناك مواقع ومجلات وجرائد ورقية وإلكترونية تنقل عن "ميدل إيست أونلاين" وأحيانا تذكر اسم المصدر، وفي كثير من الأحيان لا تذكره، وعندما كنت في زيارة للجزائر خلال عام 2003 أخبرتني كاتبة صحفية هناك أن جريدتها تنقل بعض مقالاتي في ميدل إيست أونلاين وتعيد نشرها في تلك الجريدة الورقية.

وعندما أخبرت د. هيثم بذلك، قال: مللنا من مخاطبة هؤلاء، وفي النهاية سلَّم أمره واعتبر "ميدل إيست أونلاين" مثل وكالات الأنباء العالمية الكل ينقل عنها نقلا مشاعًا.

وكلما رأيت مواد من ميدل إيست أونلاين متداولة في مواقع أخرى تذكرت مقولة د. هيثم الزبيدي إننا مثل الوكالات العالمية.

في عام 2005 قمتُ مع الأصدقاء: محمد سناجلة، وحسام عبدالقادر ومنير عتيبة والسيد نجم، بتأسيس ما أطلقنا عليه "اتحاد كتاب الإنترنت العرب"، وقمنا بدعوة عدد من الكتَّاب العرب المهتمين بهذا الشأن – داخل الوطن العربي وخارجه - للمشاركة في تأسيس الاتحاد، وكان د. هيثم الزبيدي من أوائل الكتَّاب الذين استجابوا للدعوة، وأصبح من المؤسسين لهذا الاتحاد الوليد، بعدها عمل الزميل سناجلة مديرًا لتحرير ميدل إيست أونلاين، من خلال وجوده في الأردن، لكنه لم يستمر طويلا في هذا العمل. وفي عام 2007 دعاني د. هيثم الزبيدي للعمل – من على البعد - محررًا في القسم الثقافي، فأبديتُ ترحيبًا شديدًا، واقترحت أن يكون العمل لبعض الوقت كوني مرتبطًا بعملي الأساسي في مصر، وأبدى تفهمه لهذا الموقف، وبناء عليه حصلت على نصف أجر ما يأخذه المحرر المتفرغ.

ثم أخذ يدربني من مكتبه في لندن وأنا في بيتي بالإسكندرية على كيفية نشر المواد وإدخال الصور بقياسات معينة، مع المادة التحريرية، وغير ذلك من أمور النشر ودقائقه التي كانت تمثل لي صعوبة في البداية، ولكنه ثابر معي وأخذ يشرح لي ببساطة شديدة وصبر كبير مغاليق هذا العالم الجديد. لأنني قبلها كنتُ أرسل المادة الثقافية فقط – عن طريق الإيميل - وهو يتولى نشرها بنفسه، والآن سأكون أنا المسئول عن نشر موادي ومواد الكتاب الآخرين. وبعد عدة جلسات أتقنت العمل وانتقلتْ لي مسئولية تحرير المواد الثقافية، مع بعض التوجيهات التي يجب أخذها في الاعتبار عند النشر.

ثم دعاني لزيارة مكتب ميدل إيست أونلاين في لندن، وكانت مفاجأة كبيرة لي لأنني لم أزر لندن من قبل، وكانت هي المرة الأولى على يده، فذهبت ومكثت عدة أيام، واصطحبني في زيارة إلى منزله الأنيق، وهناك تعرفت إلى عائلته الصغيرة المتمثلة في زوجته الكريمة وابنه عمر وابنته دنيا.

كان يصاحبني في تلك الرحلة اللندنية الزميل حسن الأشقر الذي استجاب د. هيثم لتحرير دعوة له معي، على الرغم من أنه لم يكن يعمل في ميدل إيست أونلاين ولا يكتب. ثم تكررت الزيارة مرة أخرى في عام 2009.

بعد أن وقَّع د. هيثم الزبيدي اتفاقية تعاون بين ميدل إيست أونلاين وبين بعض المثقفين في أبوظبي ومنهم الراحل الكريم الأستاذ محمد خلف المزروعي، كنت أذهب إلى هناك صحفيًّا وإعلاميًّا من ميدل إيست أونلاين في مهرجانات وفعاليات ثقافية متعددة كان من أهمها: مهرجان الشرق الأوسط السينمائي، الذين أصبح اسمه بعد ذلك مهرجان أبوظبي السينمائي ولكنه لم يستمر طويلا، إلى جانب فعاليات برنامجي "أمير الشعراء"، و"شاعر المليون"، ومعرض أبوظبي للكتاب، وغير ذلك. وكنت ألتقي د. هيثم الزبيدي في بعض الأحيان في أبوظبي أثناء هذه الفعاليات.

عندما توفيت زوجتي في عام 2017 أرسل د. هيثم الزبيدي مندوبًا باسم ميدل إيست أونلاين وجريدة العرب اللندنية، لتقديم واجب العزاء، وكان المندوب هو الصديق العزيز الكاتب الصحفي محمد أبوالفضل، مدير مكتب القاهرة.

ظللت أعمل محررًا ثقافيا – على هذا النحو – أكثر من عشرين عاما، وحتى هجوم فيروس كورونا على العالم، وكان من تداعياته الاقتصادية تقليص حجم المشاركات والميزانيات لبعض الجهات، وكان منها "ميدل إيست أونلاين" الذي أغلق مكتبه في القاهرة وعواصم أخرى. وظل مكتب تونس هو القائم حتى الآن، وقد زرته أثناء زيارة لتونس أعدها لي أيضا د. هيثم الزبيدي باسم جريدة "العرب" عام 2018.

من خلال لقاءاتي المتعددة بالدكتور هيثم الزبيدي، لمست فيه – إلى جانب ثقافته العريضة الواسعة متعددة الروافد والمناحي - جوانب إنسانية عظيمة، ومعاملة راقية مع كل من حوله، وأطلقت عليه "رجل دولة". أحيانا كان يتصل بي لتبادل النكات والقفشات تخفيفًا من عناء العمل والجهد العصبي المبذول، وحتى في هذه اللحظات كنت أستفيد من تعليقاته وتحويل مسار النكتة إلى مسار ثقافي واجتماعي وسياسي. وكان يحلم بأن تكون "ميدل إيست أونلاين" مؤسسة – وليست ملكًا لفرد واحد - لتستمر بعد رحيله الذي كان يمثل هاجسًا له. ويبدو أنه كان يشعر دائما بهذا الرحيل المبكر.

وقد انتابني الحزن الشديد عندما اتصل بي من الأردن الصديق محمد سناجلة مساء السبت 17 مايو/ايار ليتأكد من خبر نشره أحد الزملاء على صفحته يفيد رحيل د. هيثم الزبيدي، لم أكن وقتها على علم بخبر الوفاة، فأخبرته أنه فاجأني بهذا الخبر الصادم. نعم كنت أعلم ببعض المتاعب الصحية التي يمر بها الزبيدي، وتوقعه شخصيًّا هذا الرحيل، ولكن خبر الوفاة لم أكن أعلم به. وعندما بدأت عملية البحث على غوغل تأكَّد لي الخبر، فاتصلت بسناجلة وأخبرته بأن الخبرَ مؤكد.

رحم الله الصديق العزيز والمعلم والمثقف العضوي الفاعل الدكتور هيثم الزبيدي الذي لولاه ما كنت أكتب في ميدل إيست أونلاين أولا، ثم "العرب" ثانيا. وأتوجه بخالص العزاء لأسرته الصغيرة المتمثلة في السيدة حرمه وابنه عمر وابنته دنيا، ولأسرته الصحفية في ميدل إيست أونلاين والعرب، وإلى كل أصدقائه ومحبيه وعارفي فضله وهم كثر.