ليبيا ولحظة الحقيقة الإنسانية
كان الشعب الليبي عزيزا على المجتمع الدولي يوم قرر حلف الناتو منع القذافي من الذهاب بجيشه إلى المدن المتمردة خوفا على سلامة سكانها.
غير أن المجتمع الدولي نفسه استخف بأرواح الليبيين حين حلت بهم كارثة الاعصار وتداعياته. لم يكن في إمكان جيش القذافي أن يقتل من الليبيين ما قتله الاعصار في وقت قياسي. كما أن الليبيين في الحالة الاولى كانوا مسلحين بعكس ما كانوا عليه في الحالة الثانية حين تجلى كل الخراب الذي عاشته ليبيا عبر أكثر من خمسين سنة.
يوم كان القذافي حاكما كانت ليبيا تتصدر واجهات الصحف لا باعتبارها دولة عظمى كما كان يشير إليه اسمها، بل لأنها دولة مزعجة، كما أشاعت وسائل الإعلام الغربية الموجهة. القذافي نفسه كان يتأرجح بين شخصيتي الصديق والعدو بالنسبة لدول غربية ارادت الاستثمار في غبائه السياسي وجنونه وعبقريته في مجال ارتكاب الحماقات. فرنسا وإيطاليا كانتا في مقدمة تلك الدول. ولم يكن مفاجئا أن تكون الدولتان في مقدمة الدول التي وضعت جيوشها في خدمة المسعى الأميركي للقضاء عليه.
وكما يبدو فإن الانتهاء من عصر القذافي كان هدفا، بعده انتقل الغرب إلى مرحلة، كان إهمال ليبيا أبرز ملامحها. ولكنه إهمال صوري ليس إلا. سيُقال إن ليبيا أو جزء منها ترك لتركيا. وهو أمر صحيح غير أنه يخفي أبعادا لم يكن الغرب في منأى عنها. ذلك لأن تركيا هي عضو في حلف الناتو كما أنها العضو الوحيد القادر على التعامل بانكشاف مع الجماعات الدينية المتشددة التي لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما في تمزيق ليبيا وضباع دولتها وسرقة ثروتها.
تخلص الغرب من القذافي لتكون ليبيا دولة من غير سيادة وبمجتمع من غير دولة. لم تُقتل الدولة يوم مقتل القذافي، بل قُتلت السيادة الوطنية. ليبيا التي حكمها القذافي هي أشلاء دولة. أما المجتمع الذي حكمه القذافي عبر أربعين سنة فإن الجزء الأكبر منه لا يعرف ما معنى الدولة. كل ليبي تحت الخمسين من عمره لا يمكنه في أية حال أن يتخيل شكل الدولة ومضمونها. هو ابن التجربة التي صنعها القذافي والتي لا يمكن أن تُوصف إلا بالفوضى الشاملة.
حطم حلف الناتو ليبيا ولم يحطم "دولة القذافي".
كان المجتمع الليبي بعد رحيل القذافي في حاجة إلى رعاية دولية من نوع خاص. لست هنا في صدد الحديث عن وصاية استعارية بقدر ما أنا أفكر بنوع من المشاركة يستفيد الليبيون من خلالها من خبرة المجتمع الدولي في بناء دولة ديمقراطية حديثة يكون مبدأ المواطنة أساسها. وهو ما افتقده الليبيون حين عادوا إلى جهاتهم وقبائلهم. ذلك ما يسر للتنظيمات الدينية المتشددة أن تتسلل إلى حراكهم ليكون لزعماء القاعدة السابقين، الخارجين من السجون الأميركية دور في صنع فوضى ستحل محل فوضى القذافي.
كنت كلما التقيت ليبيا من الداخل يفاجئني بالقول "الأمور جيدة". وهو ما يعني أنه لم يُقتل بعد. وإذا ما كان القذافي قد طلب من الشعب الليبي أن ينسى النفط فإن ورثته لم يشغلهم شيء بقدر ما اهتموا بسرقة واردات النفط. وعلى أساس ذلك الميزان يمكننا أن نفهم ما القصد من الشرعية التي صارت المجال الحيوي الذي يعلن ليبيون من خلاله أنهم الأحق في استلام السلطة.
لا أعتقد أن ممثلي الأمين العام للأم المتحدة قد فهموا شيئا من لغة الليبيين أو أنهم فهموا وصار اليأس عنوانا لتقاريرهم الدورية. لا يحتاج الأمر إلى كثير ذكاء. الليبيون لا يرغبون في بناء دولة موحدة لأنهم لا يعرفون ما الدولة، ما أهدافها وما نفعها وما أهميتها. لقد عاشت ليبيا من غير دولة عبر أربعين سنة من حياتها. كانت الجماهيرية تُدار من قبل اللجان الشعبية. ذلك أولا وثانيا لا تحتاج ليبيا إلى مساعدات فهي دولة ثرية، يمكن لثروتها أن تجعل من سكانها كلهم أثرياء إن شاء الليبيون أن يكونوا منصفين مع أنفسهم.
ذلك كله على السطح. الغرب الذي تخلص من ليبيا يعرف جيدا ما المشكلات العميقة التي يعاني منها المجتمع الليبي ويعرف جيدا أن مجتمعا حُرم من الحياة السياسية عبر أكثر من أربعين سنة لا يمكنه أن يُدير نفسه بنفسه. شباب ذلك المجتمع كلهم ينتمون إلى مرحلة الفوضى القذافية. الأخطر من ذلك أن التنظيمات الإرهابية التي أدامت لحرب في ليبيا لم يكن لديها هدف سوى الاستمرار في تلك الحرب إلى ما لا نهاية. فما من شيء يجمعها سوى الحرب.
ليبيا المنسية اليوم هي ضحية الغرب الذي ينتظر التخلص من شعبها الحي.