ليس مهما من ربح، الصحف من دفع الثمن

إيان هيسلوب رئيس تحرير مجلة برايفت – آي يرفض الإصدار الرقمي للمجلة الناجحة بالقول "هل تريدون مني المساهمة في إفساد بصر الشعب كما أفسدتم بصيرته".
بمجرد النظر لنموذج الأعمال الصحافية اليوم، نكتشف ما فقدناه لمعرفة حقيقة ما يجري في العالم، نكتشف الخلاف السام المتصاعد، عدم الاتفاق على مفهوم الحقيقة، لنعيد إطلاق السؤال على أنفسنا هل نحن في أفضل حال من دون صحافة قادرة على ربط المجتمع.

مبدئيا يمكن الإقرار بفوز المنصات الإلكترونية، من دون الجزم النهائي بهزيمة الصحافة. الإنترنت ربحت لكن وحدهم القراء الباحثون عن المحتوى المتميز من دفع الثمن. الهراء والضحالة واللغة المكررة وانعدام الأفكار تستحوذ على القصص الصحافية على الإنترنت مستهينة بوعي القارئ. بينما تتراكم الأسئلة أمام الصحافة المخلصة لجوهرها، عن المحتوى المتميز وهي تعيش أزمتها الوجودية.

كتب زميل عرّف نفسه برئيس تحرير! ولديه من المتابعين لحسابه على تويتر عشرات الآلاف، عن عدم وجود أزمة تعيشها الصحافة المطبوعة، معتبرا أن الصحيفة مجرد “سلعة تجاوزها المستهلك وارتبط بسلع أخرى”. ومع أن صاحب هذا الرأي “رئيس تحرير” وفقا لتعريف نفسه، يطالب بتطرف التوقف عن مضيعة المال وعدم دعم المؤسسات الصحافية.

ليس صعبا تفكيك هذا الكلام باعتباره فهما قاصرا لدور الصحافة التاريخي بوصفها الضامن لديمقراطية حرة من تبادل المعلومات ومراقبة الفساد الحكومي.

يميل الصحافيون إلى اعتبار أنفسهم مواهب فردية، مدفوعين بغرائزهم الجريئة، يجدون ويكشفون قصص الآخرين. بدلا من ذلك يجب أن يفكروا في عملهم كعنصر واحد ضمن نظام شامل، لأننا كصحافيين لم نعد وحدنا في بناء غرف الأخبار وإعادة تسويقها.

فوظيفة الصحيفة الورقية كوثيقة، لا تمثل وحدها الأزمة الوجودية للصحافة في التنافس المتصاعد مع المواقع الإلكترونية، لأن الأزمة لا تكمن في النوع “أيها السيد رئيس التحرير المفترض” بل بصناعة المحتوى، ذلك هو الاختبار أمام الصحافة المسؤولة للمحافظة على جمهورها. طريقة التقديم هي من تتغير ورقية كانت أم رقمية، والصحافة نموذج عمل يتطلب إعادة صناعته وليس دق المسمار الأخير في نعش الصحف المطبوعة.

أما عندما يدير الصحافي ظهره للأفكار المبتكرة، والخضوع لسيطرة الشركات التكنولوجية الكبرى، فإنه سيجعل من الصحافة مقبرة لنفسه، مثلما يسهم في إبقاء مهنته راقدة في السوق المريضة.

وعلى الصحف ألا تكرر الخطأ الذي ارتكبته في بداية اندماجها بالإنترنت، عندما اعتقدت أن الحضور الرقمي يعني ببساطة نقل المقالات المطبوعة إلى الويب! لتجد نفسها ضائعة بعد أن كسرها جيل الإنترنت وانهال عليها في ما بعد أبناء فيسبوك وتويتر.

أرى أن الخيار هو إعادة صناعة الصحافة وليس استبدالها، فليس بمقدور العالم التخلي عن الصحافة بوصفها الرقيب المثالي على الديمقراطية ومنع فساد الحكومات وهدر الأموال.

وليس بمقدور رأي هذا الزميل المحسوب مبدئيا على الصحافة، أن يكسر طقوس المطالعة المستمرة للصحافة الورقية. هناك جيل مستمر على هذا الطقس القرائي. فمقاهي البلدان العربية التي قتلت فيها الحكومات الصحف مازالت تقدم هذه الصحف لزبائنها. لكن السؤال الأهم عن أي صحافة نتحدث، وليس عن طريقة إصدارها.

لا يمكن في كل الأحوال، ونحن نتحدث عن بدائل الصحف في أزمتها الوجودية، أن نقلل من شأن العديد من المواقع الإلكترونية المثيرة للإعجاب بوصفها أفضل أمل لمستقبل الصحافة خصوصا غير الربحية منها، لكنها لا يمكن اليوم ولا في المستقبل الرقمي للحياة، أن تشغل مساحة تأثير الصحف عبر تاريخها، ليس لاعتبارات متعلقة بفكرة الحنين إلى الماضي وحدها، بل بطبيعة قوة التأثير، فكل الدراسات العلمية أثبتت أن قوة القراءة المباشرة على الوعي تفوق بكثير التصفح على الأجهزة الرقمية، مع أن هذه الأجهزة معلم صبور، إلا أن صبر الدماغ يتفوق عليها في الاستيعاب والتفكير عندما يركز في القراءة التقليدية.

وبمجرد النظر لنموذج الأعمال الصحافية اليوم، نكتشف كمجتمعات بيسر ما فقدناه لمعرفة حقيقة ما يجري في العالم، نكتشف الخلاف السام المتصاعد، عدم الاتفاق على مفهوم الحقيقة، لنعيد إطلاق السؤال على أنفسنا هل نحن في أفضل حال من دون صحافة مسؤولة وقادرة على ربط المجتمع بديمقراطية حرة؟

التجارب التاريخية علمتنا أن مشاركة المجتمع في تحمل المسؤولية العامة تتراجع بغياب الصحافة، الناس أنفسهم يصبحون أقل إحساسا بوحدتهم الجماعية وأكثر تحزبا وطائفية وقبلية من دون صحافة فعلية بين أيديهم، ويصبح هذا الأمر أكثر خطورة على الدول الديمقراطية التي تخضع للمحاسبة الصحافية بلا انحياز وخضوع.

أو بتعبير ماري بيث إيرنهيردت التي تُدَرّس الصحافة بجامعة يونغزتاون بولاية أوهايو، أن المجتمع من دون صحيفة مركزية قوية سيكون مفتقدا للقيادة وإلى جزء كبير من هويته.

لذلك بإمكان الصحافي إعادة اختراع مهنته وليس التخلي عنها، كما يحدث لنسبة كبيرة من الصحافيين الذين افتقدوا إلى الثقة بالمستقبل.

دعني ارشدك “الخطاب للزميل المطالب بنحر ما تبقى من الصحافة الورقية” إلى مجلة برايفت – آي البريطانية الساخرة، وهي تصدر في بلد يعد من بين أكثر بلدان العالم التي تضررت فيها الصحافة المطبوعة بسبب ما سمي “السوق المريضة” وتوقفت المئات من الصحف عن الإصدار.

لازالت هذه المجلة تحقق نجاحا مطردا بزيادة التوزيع مع أنه لا توجد لها طبعة إلكترونية!

ودائما ما كان يذكر رئيس تحريرها إيان هيسلوب بجملته الشهيرة التي قالها قبل سنوات بعد رفضه الإصدار الرقمي للمجلة الناجحة بالقول “الناس تعب بصرها من النظر إلى المواقع، هل تريدون مني المساهمة في إفساد بصر الشعب كما أفسدتم بصيرته!”.

مجلة برايفت – آي البريطانية ليست مثالا نادرا لتفنيد وجهة النظر المتطرفة لرئيس التحرير العربي المطالب بالإجهاز على ما تبقى من الصحافة الورقية، لأن رأيه أقل بكثير من فهم توازن القوى في الصناعة الصحافية.

فالأزمة ليست فقط بتخلي الحكومات العربية عن الصحافة، إنها أزمة عالمية تبدأ من الصحافة الأميركية، مع أن الرجال الأقوياء الذين وضعوا الدستور الأميركي كانوا يفضلون دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة.

لك أن تتخيل الديمقراطية البريطانية من دون صحافة مقروءة، ما الذي سيفعله البريطانيون حينذاك!

وليست مجلة برايفت – آي وحدها مثالا جيدا عن الصحافة بوصفها حلا مثاليا للنقاش السام الذي كسر فيه العصر الرقمي نسق المجتمعات وضيع الحقائق. فسبق وأن أعلنت صحيفة فايننشال تايمز بغرور على درجة من الاحترام بأنها لم تصب بمرض العصر الرقمي، وأن الصحافة التي عهدناها لم تنته بعد، فالصحيفة البريطانية الوردية أقوى من التكنوفوبيا، يكفيها فخرا أنها بدأت تتخطى رقم مليون مشترك يوميا، منذ سنوات.

أرى أن مصطلح تكنوفوبيا الذي توعدنا به الزميل رئيس التحرير المفترض، لا يمكن أن ينطبق على الصحيفة المخلصة لجوهر الصحافة، فشبكة الإنترنت كانت الكلب الذي نبح ولم يعض بعد، وفق تعبير الزميل جون جابير في صحيفة فايننشال تايمز!