مأزق الحكومات التونسية إزاء خبز التونسيين

من المتوقع ان تعود قضية الخبز لواجهة الأحداث في تونس بسبب أزمة الغذاء والقمح بشكل خاص في حال استمرت الحرب الروسية الأوكرانية.
التونسيون يرمون 320 مليون خبزة في السنة
تونس

أفادت وزارة التجارة التونسية أن 900 ألف خبزة يتم رميها يوميا أي ما يعادل 320 مليون خبزة في السنة، مما يكلف الدولة خسائر مالية كبرى قدرتها الوزارة بـ900 مليون دينار سنويا (292 مليون دولار).
والخبز هو مادة حيوية لدى التونسيين إذ يدخل في العادات الغذائية الأساسية اليومية التي لا يقدر التونسيون على الاستغناء عنها أو تعويضها بمواد أخرى كالأرز أو البطاطا عند بعض الشعوب الأخرى. 
ومنذ الاستقلال تُولي سياسات الدولة أهمية خاصة للخبز الذي يتصدر قائمة المواد المدرجة ضمن منظومة الدعم (صندوق التعويض).
ويقول الباحث في التاريخ المعاصر عبد الجليل بوقرة في تصريح خاص لـ"ميدل إيست أونلاين"  إن "سياسة دعم المنتجات والمواد الأساسية تعود إلى أربعينيات القرن الماضي بوصول الجبهة الشعبية للحكم في فرنسا وانطلاق جملة الإصلاحات الاجتماعية التي تم لإقرارها مثل العطلة الأسبوعية وتحديد ساعات العمل اليومي والضمان الاجتماعي..".
ويضيف بوقرة أن هذه السياسة سرعان ما انتقلت إلى تونس خاصة في سياق الجفاف والأزمة الغذائية التي عرفتها تونس بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، فتم إحداث الصندوق العام للتعويض بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 28 حزيران/ يونيو 1945.

 منذ أحداث الخبز في يناير 1984 تتجنب كل الحكومات المتعاقبة الصدام مع الشعب بسبب الترفيع  في أسعار الخبز 

وللخبز رمزيات خاصة في أذهان التونسيين والسياسيين. فهو الذي أجج أحداث الخبز الشهيرة في الـ3 من كانون الثاني/ يناير 1984 التي سبقتها انتفاضات صغيرة كانت بمثابة القادح لثورة الخبز.
ففي أواخر كانون الأول/ ديسمبر عام 1983 صدر قرار حكومي للترفيع بـ70 بالمائة في ثمن العجين (مشتقات القمح) وبالتالي مضاعفة سعر الخبز على أن يدخل حيز التنفيذ في الأول من يناير التالي.
واتسعت رقعة الاحتجاجات معلنة العصيان ضد دولة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
ازداد الغضب الاجتماعي قوة وحدّة يوم الـ3 من يناير عندما خرج أهالي العاصمة ياحيائها الفقيرة للاحتجاج. فكان يوما دمويا و توسعا حيث تم استهداف المؤسسات الرسمية ومراكز الأمن والمؤسسات المالية و صدرت تعليمات للجيش للنزول إلى الشارع.
ولم يهدأ الشارع التونسي إلا عندما أعلن بورقيبة في خطاب شهير التراجع عن الترفيع في أسعار الخبز وبقية المواد المشتقة من القمح.
ومنذ ذلك التاريخ تتجنب الحكومات المتعاقبة في حقبتيْ بورقيبة وزين العابدين بن علي وفي السنوات التي تلت أحداث يناير 2011 الترفيع في أسعار الخبز. 
ويقول وزير المالية الأسبق حسين الديماسي لميدل إيست أونلاين إن من أشد ما واجهته حكومة الترويكا التي شارك فيها في 2012، هو كيفية تحقيق معادلة عدم الترفيع في أسعار الخبز من جهة، والاستجابة لأحد شروط صندوق النقد الدولي وهو رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية كالحبوب والحليب والمحروقات.

يبلغ معدل واردات البلاد من الحبوب ضعف الإنتاج المحلي، وتستورد أكثر من نصفها من روسيا وأوكرانيا

وأضاف الديماسي أن كل الخيارات كانت مطروحة إلا خيار المساس بأسعار الخبز لأن حركة النهضة التي كانت تقود الائتلاف الحاكم (الترويكا) آنذاك كانت غير راغبة في تقويض أسس حكمها عبر "استفزاز" التونسيين بالترفيع في أسعار الخبز.
وتواجه الحكومة التونسية الحالية كسابقاتها من الحكومات نفس المعضلة، خاصة بعد مؤشرات تفيد بقرب التوصل إلى حل مع صندوق النقد الدولي على ضوء إعلان لجنة خبرائه التي زارت تونس طيلة الأسبوعين الأولين من شهر يوليو الجاري "تجاوب المسؤولين التونسيين والشركاء الاجتماعي إيجابيا مع مطالب الصندوق".
ويقول بوقرة نقلا عن بعض المقربين إن بورقيبة كان يقول لوزرائه "لا تحدثوني عن مخططات تنمية ولا عن مشاريع كبرى.. حدثوني عن مدى قدرة التونسيين على اقتناء ما يكفيهم من الخبز"، لأن ذلك في تقديره يعكس مدى رضا المواطنين على سياسات الدولة.
ويتوقع الديماسي أن تعود قضية الخبز لواجهة الأحداث في تونس بسبب أزمة الغذاء والقمح بشكل خاص في حال استمرت الحرب الروسية الأوكرانية.
وأضاف أن "الحرب في أوكرانيا فرضت واقعا جديدا على الدول التي لا تؤمّن خبز مواطنيها من إنتاجها الخاص، بعد أن قفزت أسعار الحبوب إلى مستويات قياسية، مما قد يكلّف الموازنة نحو 1,3 مليار دينار (423 مليون دولار) إضافية لدعم الغذاء.
وتفيد الأرقام الرسمية التي أصدرها ديوان الحبوب الحكومي أن استهلاك تونس من الحبوب يبلغ 3.4 ملايين طن (1.2 مليون طن لكل من القمح الصلب والقمح اللّين، ومليون طن شعير).
ويبلغ معدل واردات البلاد من الحبوب ضعف الإنتاج المحلي، وتستورد أكثر من نصفها من روسيا وأوكرانيا.

وأفاد الخبير في أسواق الأمن والحبوب الغذائي سليم بوصباح في تصريح أدلى به لوكالة الأنباء الرسمية (وكالة تونس إفريقيا للأنباء) في أيار/ مايو الماضي أن "تونس مصنفة البلد الأول عالميا في استهلاك الخبز"، موضحا أنها "لا تنتج سوى قطعة واحدة من إنتاجها المحلي من أصل 5 قطع تستهلكها".