مؤيد البدري.. الرياضة رسالة وعقيدة

مؤيد البدري، ليس في جبته غير العراق والرياضة.
خدم مؤيد البدري العراق بمجاله فوق الميول والاتجاهات
سلاحه الوحيد الابتسامة، على حد قول زميله إبراهيم الزبيدي

لعل قلة من العراقيين، من جيل مؤيد البدري (1934-2022) لم ينتم لحزب أو منظمة، من اليسار أو اليمين، عقيدة أو هوى، فمن هذه القلة كان البدري. انتماء مبكرا للرياضة لاعبا ودارسا ومدرسا وحكما ومعلقا ومقدما لبرنامجها التحفة. لم يصمت «الرياضة في أسبوع»، لثلاثين عاما، كان يعلق في الملاعب بنبرة كأنه ينشد شعرا.

خدم البدري العراق بمجاله، فوق الميول والاتجاهات. كانت الرياضة لباس أمثاله، لا تقبل انتماء آخر، وفي الساحات تظهر القدرات. ومع أن الرياضة مجال لا منتم، ليس بمقدور أحد جعلها يسارية أو يمينية، إسلامية أو علمانية، لكنها كانت وسطا خصبا للاستغلال، عن طريقها تدخل الجماعات الحزبية والدينية إلى الشباب، وعلى الرغم من حذر البدري من الاستغلال إلا أنه، بل والشعب العراقي، استغفل بنزالات المصارعة (1970- 1972) الملفقة، لما فيها من حط للرياضة والضحك على الناس، ثم ساهم بفضحها (الزبيدي، دولة الإذاعة).

لم يكن الإلهاء بالرياضة جديدا، ببغداد خصوصا. روي عن البويهيين (334-447هج): إنه «من أعجب الأشياء المتولدة في زمن معز الدولة: السعي (الركض) والصراع (المصارعة)، وذلك أن معز الدولة احتاج إلى السعاة ليجعلهم فيوجا بينه وبين أخيه ركن الدولة بالري، فيقطعون تلك المسافة البعيدة، في المدة القريبة، وأعطى على جودة السعي الرغائب، فحرص أحداث بغداد وضعفاؤهم على ذلك، حتى انهمكوا فيه، وأسلموا أولادهم إليه».

كما «اشتهى معز الدولة الصراع، فكان يعمل بحضرته حلقة في ميدانه، ويقيم شجرة يابسة تنصب في الحال، ويجعل عليها الثياب الديباج، العتابي، والمروزي، وتحتها أكياس فيها دراهم، ... يؤذن للعامة في دخول الميدان، فمن غلب، أخذ الثياب والشجرة والدراهم». دخلها الأحداث، حتى جعل دوريا للمصارعة، ومن يفوز في التصفيات يصارع بحضرة السلطان، والفائز يصبح بطلا يغرق بالجوائز. لكن «كم من عين ذهبت بلطمة، وكم من رجل اندقت».

كذلك أهتم أصحاب معز الدولة بالسباحة، «حتى أحدثوا فيها الطرائف، فكان الشاب يسبح قائما، وعلى يده كانون، فوقه حطب يشتعل تحت قدر»، (التنوخي، نشوار المحاضرة). حصل مثل ذلك بالضبط تأثرا بنزالات عدنان القيسي بين الشباب في الحدائق والساحات. لم يعرف العراق كرة القدم إلا بفضل البريطانيين، وكان قانون الكرة ببغداد يسمح بالاحتفاظ بمدرب ولاعب بريطانيين إلى أن تمكن العراقيون (البغدادي، بغداد في العشرينيات)، وتأسس اتحادها العام 1948.

كان للرياضة ضحاياها أيضا، فإذا أعدم اللاعب بشار رشيد (1978)، اغتيل بعد 2003 لاعب الزوراء سعد عبدالواحد، ومدرب فريق التنس، واغتيل رئيس الأولمبية أحمد الحجية، وقتل الحكم الدولي لكرة الجرس للمكفوفين فادي يوحنا.

لم تعد هذه الأجواء، ولا التي قبلها في التسعينيات، ملاءمة لمثل البدري، سلاحه الوحيد الابتسامة، على حد قول زميله إبراهيم الزبيدي، يواجه بها المتجاوزين. إن نسيت صوته معلقا ومقدما لبرنامجه، فلا أنسى الرجل المبتسم والأنيق في مكتب بريد الباب الشرقي (1970)، وكنت حديث العهد ببغداد، قائلا: تحتاج مساعدة؟ بعد أن لاحظني حائرا في ملء استمارة إرسال برقية. قلت له: «لم أرسل من قبل برقية»! أخذ القلم ورتبها لي، وغادر حاملا حقيبته، التي نسميها «دبلوماسية».

عند المساء شاهدته من شاشة تلفزيون بغداد ببرنامجه الرياضي، عرفت أول مرة إنه البدري، ولم ألتقه ثانية إلا 2012 وبابتسامته نفسها استقبلني، لكن الظهر منه بدا منحنيا. إنه مؤيد البدري، ليس في جبته غير العراق والرياضة.