مئة ألف لبنان

يهدد السيد نصرالله المسيحيين اللبنانيين بذات المنطق العدائي الذي يهدد به إسرائيل. يتوعد إسرائيل بمئة ألف صاروخ، والمسيحيين بمئة ألف مقاتل.
في القانون الدستوري مئة ألف صيغة دستورية تغنينا عن مئة ألف مقاتل
لا سلاح حزب الله على قياس لبنان ولا لبنان على قياس مشروع حزب الله
لدى لبنان فائض عنف، فلا يحتاج إلى مزيد منه، وفائض تدخلات أجنبية فلا يحتاج احتلالات إضافية

إن بلدا تقف الحرب الأهلية خلف بابه ليس بلدا قابل الحياة. إن شعبا يتعرض فيه كل جيل من أجياله لتجربة الدم حري به البحث عن مصير آخر. إن مجتمعا يسير عكس حركة التقدم والتاريخ يلفظه الحاضر والمستقبل. إن نظاما مركزيا يفرز الفتن دوريا ليس نظاما مناسبا. إن دولة لا تحمي شعبها هي دولة فاشلة. إن تعددية تفتقر إلى الحضارة المتوازية وثقافة السلام هي مصدر اقتتال موسمي. إن مكونات لا يتضامن بعضها مع البعض الآخر لا تحترم بديهيات الشعور مع الشريك الآخر.

أحداث 14 تشرين الأول/اكتوبر وخطاب السيد حسن نصرالله وما تبعهما من مواقف ملتبسة ومتقلبة وذمية، أيقظت هذه المعطيات القديمة/الجديدة، وأكدت، مرة أخرى، استحالة البقاء في ظل دولة مركزية. ما تصورت يوما أن يهدد السيد نصرالله المسيحيين اللبنانيين بذات المنطق العدائي الذي يهدد به إسرائيل. يتوعد إسرائيل بمئة ألف صاروخ، والمسيحيين بمئة ألف مقاتل. إشكالية هي توحيد الأرض والشعب منقسم، ومأساة هي تقسيم الأرض الوطنية بسبب انقسام الشعب لدواع غير وطنية. عوض أن يكون التقدم في الزمن تقدما في تثبيت دولة لبنان، أخرها. وعوض أن تكون المحن عبرة تختم حروبنا بالشمع الأحمر، بقيت مفتوحة وتفننا في إعادة إنتاجها. غريب هذا الوطن الذي نشأ للكلمة ولا يحتكم إلا للسلاح، وتأسس للتوافق فصار بئر أحقاد. نحتاج هيئة لمكافحة الأحقاد أكثر من هيئة لمكافحة الفساد.

الأزمات الجديدة ليست حلا للأزمات، والقتال ليس حلا للصراعات، والصبر ليس حلا للتباين المزمن، والهروب إلى الأمام ليس حلا للمشاكل، والتهديد ليس حلا بين أبناء الوطن، وتسويات الإذعان ليست تسويات... قليل من الجرأة السياسية يكسبنا كثيرا من الراحة الوطنية. في القانون الدستوري مئة ألف صيغة دستورية تغنينا عن مئة ألف مقاتل. أما إذا كان البعض يعلل النفس بالسيطرة على كل لبنان، فجوابنا هو المقاومة لا التقسيم. وإذا كان يطمح مثلنا إلى تحديث النظام، فجوابنا هو حوار منزوع السلاح. المساواة في التفاوض بين أبناء الوطن قاعدة النجاح. جميع طاولات الحوار التي انعقدت في ظل السلاح فشلت منذ سنة 1975 إلى اليوم أكان السلاح لبنانيا أو فلسطينيا أو سوريا أو إسرائيليا. الحوار في ظل السلاح استسلام، ونتيجته غالب ومغلوب. ونحن لسنا بمغلوبين ولا من جنس المستسلمين.

نحن أبناء مقاومة تاريخية في سبيل لبنان حر، تعددي وديمقراطي. ولأننا أبناء مقاومة نعرف معنى الحياة وألم الموت، ونسعى إلى السلام والتآخي. لذلك كان بناء دولة عصرية مسالـمة مشروع المسيحيين مذ اضطلعوا بدور سياسي في هذا الشرق. راهنوا على الدولة في زمن الخلافة الإسلامية رغم أنها اعتبرتهم "أهل ذمة"، وفي زمن إمارة الجبل رغم دورهم "الثاني"، وفي نظام المتصرفية مع دورهم المتقدم، وفي زمن لبنان الكبير مع دورهم الطليعي. لا نهوى الحروب أقوياء، ولا نهابها ضعفاء لأن طموحنا السلام مع الآخرين، ولأن عنصر مناعتنا هو ذاته في قوتنا وضعفنا وهو الإيمان بالله ولبنان والإنسان.

من هنا ننصح الذين يريدون التغيير والسيطرة بالقوة العسكرية، بعدم سلوك طريق القتال، فالتقاتل بين اللبنانيين لم يكن يوما لمصلحة المتقاتلين، ولا نتائج الحروب عكست دائما موازين القوى. فعدا إرادة الصمود والمقاومة، حالت خطوط حمراء، وضعت سلفا أو لاحقا لكل حروبنا، دون الحسم النهائي، وأدت إلى تدخل عسكري عربي أو إقليمي أو دولي أو أممي. منذ القرن التاسع عشر وهذه الثوابت ترافق جميع الحروب اللبنانية.

اقتتال الدروز والمسيحيين سنة 1860 أتاح الدخول العسكري الفرنسي. ثورة 1958 فتحت الطريق أمام نزول "المارينز" على شاطئ لبنان. حرب السنتين 1975/1976 جلبت مجيء القوات السورية والعربية. العمل العسكري الفلسطيني في الجنوب اللبناني أسفر عن غزو إسرائيل ووصول القوات الدولية سنة 1978. مقاومة القوات اللبنانية السوريين والفلسطينيين بين 1978 و1982 أدت إلى الاجتياح الإسرائيلي. الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 أتى فورا بالقوات المتعددة الجنسيات إلى بيروت. حرب 2006 استقدمت القوات الدولية الأممية بصلاحيات معززة وبأعداد إضافية من خلال القرار 1701 الذي أوقف التقدم الإسرائيلي ضد حزب الله. واللافت أن جميع هذه التدخلات حصلت في حالات ثلاث: تجاوز أحد أطراف الحرب خطا أحمر ما، تعرض أحد المكونات لخطر وجودي، منع انتصار أحد الأطراف لكي يبقى لبنان في دائرة التوازنات الطوائفية.

واليوم، إذا ظن أحد الأطراف اللبنانيين أن الساحة متروكة له لأن لبنان مشلع ومشرع، ولا يندرج بين أولويات الدول الكبرى الصديقة، سيتفاجأ بعودة الاهتمام الدولي به ما إن تحصل مواجهات عسكرية خارج المألوف، خصوصا إذا كانت الأحداث العسكرية جزءا من المشروع الإيراني في لبنان والـمنطقة. لذلك، وبروح إيجابية، ندعو حزب الله إلى عدم ارتكاب أي مغامرة، لاسيما أن أحداث 14 تشرين الأول أظهرت أن قوته في الجنوب اللبناني وفي ربوع سوريا والعراق واليمن لا تصرف في لبنان. فلا سلاح حزب الله على قياس لبنان، ولا لبنان على قياس مشروع حزب الله. لبنان على قياس اللبنانيين الذين اصطفوا هذا الوطن أرض عنفوان وإبداع وإخاء.

تعالوا نلتقي، جميعا، في دولة منزوعة الأحقاد، عصرية ومسالـمة ومتحدة ضمن سيادتها واستقلالـها وحيادها. تعالوا نحتمي بالشرعية بعيدا عن لغة السلاح. لدى لبنان فائض عنف، فلا يحتاج إلى مزيد منه، وفائض تدخلات أجنبية فلا يحتاج احتلالات إضافية. لقد كان العنف ولا يزال مرادفا للدمار لا للانتصار.