ماكرون يعتبر التدخل التركي في سوريا بداية 'موت الناتو'

الرئيس الفرنسي يعتبر التفرد الأميركي بالقرارات في المنطقة وسلوك تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي خطرا على أمن ومستقبل أوروبا.

باريس - حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدول الأوروبية الأخرى المشاركة في حلف شمال الأطلسي من مواصلة التعويل على الولايات المتحدة في الدفاع عن الحلف.

وقال ماكرون خلال مقابلة مع مجلة "دي إيكونوميست" البريطانية الأسبوعية  "ما نمر به حاليا هو موت سريري لحلف شمال الأطلسي"، مبررا ذلك بالابتعاد الأميركي وسلوك تركيا العضو في الحلف.

واعتبر الرئيس الفرنسي أنه "حان الوقت لأن تستيقظ أوروبا"، مشيرا إلى إن الولايات المتحدة لم تعد تتشاور مع حلفائها الأوروبيين في الحلف في ما يخص القرارات الاستراتيجية بينهما".

وردا عما إذا كان لا يزال يؤمن بالبند الخامس الذي يتحدث عن "الدفاع الجماعي" بمعاهدة تأسيس الحلف وينص على أن أي هجوم على عضو واحد بالحلف يعتبر هجوما على كل الأعضاء قال ماكرون إنه "لا يعرف".

وأضاف ماكرون "يجب أن نوضح الآن ما هي الغايات الاستراتيجية للحلف الأطلسي"، داعيا من جديد إلى "تعزيز" أوروبا الدفاعية.

وعارضت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي العملية العسكرية التي شنها الجيش التركي في شمال شرق سوريا الشهر الماضي، ثم أعلنت دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وغيرها في التكتل تعليقها مبيعات أسلحة جديدة إلى تركيا رداً على العملية فيما تبحث بروكسل عن آليات لفرض عقوبات إضافية على أنقرة.

وكانت الأزمة المتعلقة بالموقف الأميركي من سوريا بدأت خلال قمة مجموعة السبع التي عقدت في نهاية آب/أغسطس في بياريتس في فرنسا.

وتفاقمت عندما لم يبلغ ترامب ماكرون، وغيره من الحلفاء، في 13 تشرين الأول/أكتوبر بقرار الانسحاب الذي من المفترض أن تترتب عليه عواقب وخيمة على صعيد المنطقة وعلى صعيد مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية.

وتعمل حاليا باريس مع برلين على بلورة تصور أوروبي مشترك يجعل من الاتحاد رقماً أساسيا وصعباً للخروج بالتسوية المنتظرة في سوريا، حيث تعتبر بروكسل أن للتدخل التركي في سوريا تداعيات خطيرة على فعالية الحرب الدولية ضد الإرهاب. 

وتعرف جيدا العديد من الدول الأوروبية كيف تصاعدت الهجمات الإرهابية داخل مدنها وعواصمها ما رفع من رصيد اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية داخل دول الاتحاد.

وبالإضافة إلى فرنسا فإن ألمانيا من أشد المنتقدين لسياسات ترامب في المنطقة، حيث تعاني العلاقات بين البلدين من توتر كبير منذ توليه منصبه مطلع عام 2017 وزادت حدة ذلك التوتر بعد أن الرئيس الأميركي برلين بضعف إنفاقها العسكري في الحلف.

ودفعت ألمانيا ثمناً باهظاً جراء عبور ملايين اللاجئين حدود أوروبا ما أحدث زلزالا اجتماعيا وسياسيا ما زال يهز أركان النظم الديمقراطية في أوروبا.

وتسعى فرنسا وألمانيا للأخذ بزمام الأمور لتوحيد الموقف الأوروبي لحماية مصالح دول القارة في المنطقة بنفسها بعد أن غيبت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنفردة الدور الأوروبي المباشر وهو أمر أصبح يمس الأمن الجماعي لدول الاتحاد.

استراتيجة أميركا أولا تهدد أمن أوروبا
استراتيجية أميركا أولا تهدد أمن أوروبا

وشدد ماكرون في المقابلة على أن "اختفاء القوة الأوروبية جيوسياسيًا يعني أننا لم نعد سادة مصيرنا".

ويملي الانسحاب الأميركي من سوريا مؤخرا والذي مكن تركيا من الدخول إلى الأراضي السورية، على الأوروبيين الإسراع في اتخاذ قرارات لحماية القارة العجوز بمعزل عن الاستراتيجيات الأميركية في المنطقة.

والشهر الماضي بحث زعماء الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على تركيا، وحتى عضويتها في حلف شمال الأطلسي على خلفية العملية العسكرية التي تقوم بها في شمال شرق سورية.

ولم يستبعد ماكرون أن تظل الولايات المتحدة "حليف أوروبا الكبير"، لكنه شدد على أن  القارة العجوز "تنظر اليوم إلى مكان آخر: الصين والقارة الأمريكية".

وأوضح الرئيس الفرنسي أن "هذا التحول بدأ في عهد باراك أوباما. لكن للمرة الأولى لدينا رئيس أميركي (ترامب) لا يشارك فكرة المشروع الأوروبي، والسياسة الأميركية اليوم لم تعد متوافقة مع هذا المشروع".

وأشار ماكرون إلى إن "ظهور القوة الصينية منذ 15 عامًا خلقت استقطابا ثنائيا خطيرا يهدد ويهمش أوروبا بوضوح".

وخرجت برلين مؤخرا عن حيادها في االمنطقة بعد التدخل التركي شمال سوريا، واقترحت وزيرة الدفاع الألمانية تأسيس منطقة أمنية دولية تحت حماية قوات الأمم المتحدة في شمالي سوريا، لكن المقترح قوبل بالرفض من روسيا وتركيا وسوريا في ما لازمت الولايات المتحدة الصمت.

وكان الحزب اليساري الألماني دي لينكه قد أصدر دعوات في وقت سابق لطرد تركيا من الحلف.

وكشف استطلاع جديدي للرأي في ألمانيا أن أغلبية الألمان يرغبون في طرد تركيا من الناتو بسبب تدخلها العسكري في سوريا.

وحسب الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة يو جوف بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية ، أعرب 58 بالمئة ممن شملهم الاستطلاع عن رغبتهم في طرد تركيا من الحلف، مقابل 18 بالمئة ممن رفضوا ذلك.

كما أيدت أغلبية أكبر ممن تم استطلاع آراءهم اتخاذ الحكومة الألمانية لموقف أكثر صرامة ضد تركيا، حيث أعرب 61 بالمئة عن تأييدهم لفرض عقوبات اقتصادية على أنقرة وأيد 69 بالمئة حظرا كاملا لصادرات السلاح إليها.

لكن عمليا يبدو طرد تركيا من الناتو إجراء غاية في التعقيد لأنه لا توجد آلية في ميثاق تأسيس الحلف لإبطال عضوية الدولة.

كما أن طرد أي دولة من الحلف يتطلب موافقة جميع الدول الأعضاء والتصديق عليه.

برلين ترمي بثقلها حتى لا تعيد تحمل موجة جديدة من اللاجئين
برلين ترمي بثقلها حتى لا تعيد تحمل موجة جديدة من اللاجئين 

وحسب جورج بينيتيز، الخبير في مجلس الأطلسي فإن "الناتو يبقى مقيدا بما يمكن أن يفعله رسمياً لمعاقبة تركيا لأنه يجب اتخاذ جميع قرارات الناتو بالإجماع، وبالتالي فإن تركيا يمكنها عرقلة أي قرارات تنتقدها أو تعاقبها".

ومن المستبعد أن يرغب حلفاء الناتو بشكل عام الاستغناء عن أنقرة نظرًا لموقعها الاستراتيجي الحيوي على حافة الشرق الأوسط فهي على الحدود مع إيران وعلى الجانب الآخر من البحر الأسود الذي تقع روسيا على جانبه الآخر، ونظرا لتوجه أردوغان الأخير نحو الشق الروسي.

ويرى بينيتيز أنه "لا يزال بإمكان الحلفاء الآخرين معاقبة تركيا عن طريق حجب المعلومات بشكل فردي عن أنقرة، واختيار الاجتماع معا بشكل غير رسمي دون حضورها".

وأضاف بينيتز أن إجراءات غير رسمية من هذا النوع قد اتخذت سرا ضد البرتغال في الناتو في أعقاب الانقلاب الذي وقع عام 1974، بينما فرضت الولايات المتحدة حظرا على الأسلحة لمدة ثلاث سنوات على تركيا بعد تدخلها في قبرص في العام نفسه.

وترى دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتهم ألمانيا وفرنسا أن تخلي واشنطن عن حلفائها الأكراد شمال شرق سوريا، يكشف تخبطاً أميركياً في مقاربة شؤون المنطقة كما شؤون مكافحة تنظيم داعش كما التموضع السليم في مواجهة التقدم الذي تحرزه روسيا بقيادة فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.

وأكد وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر خلال اجتماع أعضاء الناتو في بروكسل الشهر الماضي، أن الولايات المتحدة قلقة من رؤية "حليف جيد يتجه إلى فلك روسيا بدلا من أن يكون في فلك حلف شمال الأطلسي".

وإلى جانب معارضة العملية العسكرية للجيش التركي في شمال سوريا فإن الناتو كما واشنطن يعترض على شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الجوي الروسية "إس400"، حيث هدد ترامب بفرض عقوبات على تركيا إذا ما واصلت فشراء المنظومة الروسية في أعقاب وصول الشحنة الأولى إليها في يوليو الماضي.

كما أزالت الولايات المتحدة اسم تركيا من برنامج طائرات إف-35، الذي كانت تركيا مشاركة فيه.

وسبق وأن حذر الحلف تركيا من عواقب تلك الصفقة لكنه أبقى الأمر متروكا للحلفاء لاتخاذ قرار حول طبيعة المعدات العسكرية التي سيشترونها.

وقال مسؤول في الحلف إن "العمل المشترك لقواتنا المسلحة أساسي للناتو لإجراء عمليتنا ومهامنا” بينما رحب بعمل تركيا مع حلفاء آخرين حول تطوير منظومات للدفاع الجوي والصاروخي طويل المدى.

وكانت وزارة الدفاع في تركيا قد أعلنت في يوليو وصول المجموعة الأولى من أجزاء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة إس400" إلى مطار عسكري في العاصمة التركية أنقرة.

لكن الضغوطات الأميركية يبدو أنها أوقفت أنقرة من تسلم الدفعة الثانية، حيث أعلن رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير الاثنين، أن تسليم الدفعة الثانية من أنظمة الدفاع الصاروخية الروسية إلى تركيا قد يتأجل إلى ما بعد الموعد المزمع في 2020.

وتقول واشنطن إنها لا تزال تجري محادثات مع أنقرة "للانصراف" عن الأنظمة الروسية.