ما هي حقيقة دور قاسم سليماني في العراق؟

علاقة أيديولوجيّة قويّة ما بين أحزاب الإسلام السياسي في العراق نظام والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران تجعل كلّ واحد من الطرفَين يعتبر أن ما يقوم به بالنسبة إلى الآخر هو واجب ديني يتقدّم واجبه الوطني.

بقلم: علي المعموري

اقترن اسم قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني بملفات عديدة في الشرق الأوسط من أفغانستان إلى فلسطين، منذ أكثر من عشر سنوات. ما من معلومات مفصّلة عن حياة الرجل وأدواره في إدارة تلك الملفات نظراً لطبيعة دوره الغامض، ما جعل أكثر الكتابات عنه تميل إلى أسلوب السرد القصصي المقرون بفرضيّات واحتمالات تصل إلى حدّ التخيّل في بعض الأحيان. ويُعتبَر ما كتبه "ديكستر فيلكنز" عنه تحت عنوان "قائد الظلّ" في مجلّة "نيويركر" الأميركيّة، أحدث وأغنى مادّة كتبت عنه بخاصة في ما يتعلّق بدوره البارز في الملفَين العراقي والسوري. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن هذه المادة لم تسلم أيضاً من أسلوب السرد القصصي، ما يؤدّي إلى مزج الحقيقة بالخيال وبالتالي إلى العجز عن فهم طبيعة دور قاسم سليماني في تلك الملفات بشكل موضوعي.

نبذة عن حياته

بدأ قاسم سليماني نشاطه العسكري بُعَيد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. وتُعدّ مشاركته في إخماد الثورة الانفصاليّة للجماعات المسلّحة الكرديّة في مهاباد غرب إيران والتي اندلعت مباشرة بعد انتصار الثورة، أول نشاط له. وعلى الرغم من أنه لم يكن له دوراً قيادياً بارزاً في تلك العمليات، إلا أنها شكّلت له تجربة غنيّة في القتال العسكري غير المنظّم وهيّأته ليترقّى في سلّم المراتب العسكريّة في الحرس الثوري الإيراني. وقد انتقل من كردستان إيران إلى جبهات الحرب مع العراق فور انطلاقته، بوصفه قائداً لسريّة جمعها ودرّبها بنفسه من مسقط رأسه في كرمان. وسرعان ما ترقّى بعد دوره في عمليات ناجحة لاسترجاع الأراضي المحتلة من قبل الجيش العراقي في محافظة خوزستان الإيرانيّة، إلى أن أصبح قائداً لفرقة 41 "ثار الله".

شارك سليماني في معظم العمليات العسكريّة طوال ثماني سنوات من الحرب العراقيّة-الايرانيّة، وقد شارك أيضاً في قيادة وتنظيم عمليات متعدّدة في عمق الأراضي العراقيّة، في إطار العمليات غير النظامية التي كان يديرها "قراركاه رمضان". ومن هنا بدأت علاقات الرجل بالقيادات الكرديّة العراقيّة التي كانت تقاتل نظام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين حينذاك، وأيضاً علاقاته بالقيادات العراقيّة لفوج "9 بدر" الذي كان يضمّ عناصر عراقيّة تقاتل في الجانب الإيراني ضدّ نظام صدّام حسين. وقد شارك سليماني في تخطيط وإدارة العمليات العسكريّة التي قام بها فوج "9 بدر" في الانتفاضة الشيعيّة ضدّ نظام صدّام حسين بُعيد حرب الخليج الأولى.

بعد قمع الانتفاضة، أرسلت فرقة 41 "ثار الله" بقيادة سليماني إلى شرق إيران للقضاء على عصابات تهريب المخدرات التي كانت تسيطر على مناطق شاسعة من الصحارى في محافظات كرمان وسيستان وبلوشستان وخراسان. وتلك التجارب الطويلة بخاصة في ما يتعلق بإدارة الحروب غير النظامية والقتال في المناطق الصحراويّة، منحت هذا الرجل خبرة واسعة، هو الذي لم يتابع دراسات جامعيّة ولا عسكريّة في حياته. وهذا ما أدّى إلى توليه قيادة فيلق القدس المختص بالعمليات العسكريّة في خارج الأراضي الإيرانيّة.

دوره في العراق

استطاع قاسم سليماني أن يطوّر نشاطات فيلق القدس ويوسّعها مناطقياً ومهنياً، ليشمل أقصى بلاد العالم بالإضافة إلى البلاد المجاورة لإيران من قبيل أفغانستان وطاجيكستان والعراق من جهة، وليجمع ما بين الجانب الدبلوماسي والعمل العسكري من جهة أخرى. لذلك وعلى خلاف العادة السائدة في العلاقات الدبلوماسيّة، تكفّل سليماني بشكل حصري التفاوض مع الأميركيّين بخصوص التعاون معهم في الملفَين العراقي والأفغاني. وهذا ما يفسّر سبب اختيار سفراء إيرانيّين ذي خلفيات عسكريّة وأمنيّة دائماً في العراق. وتجدر الإشارة إلى أن کلّ من حسن كاظمي قمي وحسن دانايي فر كانا من قادة الحرس الثوري الإيراني وكلاهما عملا طويلاً في الأجهزة الأمنيّة الإيرانيّة.

استطاع قاسم سليماني أن يخلق ويطوّر شبكة علاقات واسعة مع معظم الشخصيات والأحزاب المتنفّذة سياسياً في العراق، من مختلف الاتجاهات. ويرجع ذلك لسابقة معرفته بالقادة الأتراك وبقيادات فوج بدر منذ الحرب الإيرانيّة-العراقيّة. وقد لعب كلّ من أبومهدي المهندس العضو البارز في فيلق القدس ووزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانيّة وهادي العامري رئيس أركان فوج بدر وقائده في ما بعد، دوراً بارزاً في توسيع شبكة علاقات قاسم سليماني لتشمل جهات شيعيّة غير مرتبطة بإيران في السابق. من جهة أخرى، توسّعت العلاقات أيضاً لتشمل جهات سنيّة بارزة. وقد ظهر ذلك جلياً في خلال حضور رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي مجلس عزاء والدة قاسم سليماني في طهران.

توزّعت نشاطات قاسم سليماني في العراق في كلا المجالَين العسكري والسياسي، ولم تقتصر على طائفة محدّدة دون أخرى. فحصلت المليشيات السنيّة والشيعيّة على حدّ سواء، على الدعم المطلوب لمقاتلة الأميركيّين في خلال وجودهم في العراق. وفي السياسة أيضاً، من النادر أن تشارك جهة سياسيّة سنيّة أو شيعيّة في الحكومة العراقيّة من دون وجود تفاهمات وعلاقات بينها وبين قاسم سليماني بشكل مباشر أو غير مباشر، وتشمل علاقاته وعمليات التنسيق التي يجريها أيضاً دائرة واسعة من الأطراف الاجتماعيّة الفاعلة، من جهات دينيّة وإعلاميّة ومنظمات من المجتمع المدني من مختلف أعراق العراق ومذاهبه.

كيف استطاع أن يلعب دوراً رئيسياً في العراق؟

ما سبق سرده يساعد القارئ على فهم طبيعة الدور الذي يقوم به قاسم سليماني في العراق. وفي الإجابة عن كيفيّة ذلك، تجدر الإشارة إلى النقاط الآتية:

أولاً، دخل الأميركيّون العراق من دون أن تتوفّر لهم شبكة علاقات واسعة مع الجهات المختلفة في المعارضة العراقيّة تساعدهم على إدارة ملفات ما بعد الحرب. وذلك في حين أن إيران كانت قد عملت لمدى ثلاثة عقود على تطوير تلك العلاقات التي وبخلاف الظاهر، لم تكن مقتصرة على الجهات التي استضافتها في إيران، بل شملت جهات أخرى من أكراد وشيعة وسنّة من خارج إيران. واستطاع قاسم سليماني أن يستخدم ويطوّر هذه الشبكة الواسعة التاريخيّة ويربطها بإيران ضمن إطار مصالح مشتركة لكلّ الأطراف، في حين عوّلت الولايات المتّحدة على قدرتها العسكريّة فقط ولم تقم بأي شيء ملموس بهدف إيجاد شبكة علاقات ومصالح مماثلة لا قبل دخولها العراق ولا بعده.

ثانياً، ثمّة علاقة أيديولوجيّة قويّة ما بين أحزاب الإسلام السياسي (شيعياً وسنياً) في العراق وبين نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تجعل كلّ واحد من الطرفَين يعتبر أن ما يقوم به بالنسبة إلى الآخر هو واجب ديني يتقدّم واجبه الوطني. وعليه، يجب فهم وتفسير قسم كبير من تلك العلاقات في سياق أوسع من منطق العمالة. وترجع هذه العلاقة الأيديولوجيّة تاريخياً إلى بدايات الحقبة التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، بحيث ساهم محمد باقر الصدر الذي يعتبر المؤسّس والأب الروحي لحزب الدعوة الإسلاميّة في صياغة الدستور الإيراني الجديد وطلب من أتباعه الحفاظ على هذا "الإنجاز العظيم" بحسب تعبيره ودعمه. أضف إلى ذلك مساهمة الفكر الإخواني السنّي في التنظير لشكل النظام الإسلامي في إيران.

ثالثاً، أدّت الفترة الطويلة من الحكم الاستبدادي في العراق إلى انهيار كلّ مؤسّسات الدولة وارتباطها بشخص الزعيم (صدّام حسين). وقد حوّل هذا العامل العراق إلى مجتمع مشتّت ومفتّت بعد سقوط النظام في العام 2003، ما جعل كلّ أطياف الشعب تبحث عن ملاذ له في أرض مهدّدة من قبل مختلف أشكال العصابات والجماعات الإرهابيّة من جهة، ومن جهة أخرى مختلف عليها لجهة المصالح القوميّة للقوى الإقليميّة والدوليّة. وعليه، في حين أغلق معظم جيران العراق والقوى الإقليميّة الفاعلة الأخرى الأبواب في وجه التعامل مع هذا البلد في ظلّ الاحتلال، فتحت إيران باب مساعداتها على مصراعيه أمام الجميع. وكان قاسم سليماني يدير العمليّة في مختلف مجالاتها.

ساهمت إيران في دعم الوضع الاقتصادي المنهار تماماً من خلال فتح باب السياحة الدينيّة أمام الطرفَين، بحيث كان الزوار الإيرانيّون يدخلون إلى العراق والعراقيّون إلى إيران من دون حاجة إلى جوازات سفر أو أي أوراق رسميّة أخرى لمدّة طويلة من الزمن، إلى حين استقرار الأحوال وتوسّع السياحة الدينيّة وجعلها في أطر رسميّة. وقد دعمت إيران الأحزاب السياسيّة الناشئة حديثاً من حيث التمويل والتنظيم والإعلام. كذلك قدّمت كلّ دعمها إلى المليشيات التي كانت تقاتل الأميركيّين في مختلف مناطق العراق. وفي الوقت نفسه دعمت الأميركيّين للتخلّص من مأزق العراق وتثبيت الوضع الأمني لصالح الحكومة المتشكلة في ظلّ حمايتها.

وأخيراً يبدو أن الدور الذي يقوم به قاسم سليماني أشمل من أن يكون دوراً متمثلاً بشخصه، بل يدخل ضمن سياق علاقات مؤسّساتيّة واسعة النطاق تربط المجتمع العراقي والحكومة العراقيّة بإيران التي كانت قد تضرّرت كثيراً جرّاء الاعتداء العراقي عليها وبقيت خائفة متوجّسة من تكرار ذلك. وعليه، حاولت أن تخلق ظروفاً ممانعة صارمة في وجه خطر يتهدّدها من قبل هذا الجانب. وفي مثل هكذا ظروف، ما يتوجّب على الجهات العراقيّة ليس التصدّي الهجومي ضدّ إيران وليس الوقوع في دائرة العلاقات في سياق العمالة، بل محاولة إيجاد توازن في تلك العلاقات بشكل يخدم مصالح كلا البلدَين ويمنع التدخّل الايراني، وذلك مع تضمينها مصالح معقولة سياسياً.

كاتب عراقي