'مجلس الله'

لبنان الواحد ليس وطنا كاملا. نحن نصف وطن ونصف دولة وشعبان.

نسي الشعب لذة الممارسة الديمقراطية. أخفقت الانتخابات النيابية في تكوين سلطة مضادة ضرورية في أي نظام ديمقراطي. لا الدولة وفرت للشعب قانونا يسمح بالتغيير الجدي ويشجع على الاقتراع، ولا القوى البديلة قدمت للشعب مرشحين على مستوى المرحلة المصيرية، ولا الشعب اختار الأفضل دائما. في كل الأحوال، لعبة الأكثرية والأقلية في لبنان هي عدد متحرك يتأثر بالمصالح الداخلية والولاء الخارجي، فتصبح الأكثرية أقلية والعكس صحيح.

لم تكن هذه الانتخابات جزءا من مشروع تطوير النظام اللبناني وتحسينه، إنما هي جزء من تموضع لبنان حيال الصراع الكبير الدائر في المنطقة، والمشرع أمام التطورات الآخذة بالتصاعد. فأمس انتخبت إيران في لبنان، وابتداء من اليوم تنتخب إسرائيل في المنطقة، ونعرف لمن تحتفظ بضربتها "التفضيلية".

سها هذا البعد عن قوى عديدة، فتعاطت مع الاستحقاق الانتخابي كأنه مناسبة لتأكيد سلالتها أو مساحة تأثيرها البلدي أو مدى لياقتها حيال الجنس الأنثوي. غاب عن الحملات الطرح الوطني وحل أزمة النازحين ووقف التوطين، وكأنها مواضيع رجعية معيب أن تثار. هكذا، بين هذين الحدين: الإقليمي والبلدي، ومن خلال التقسيمات والتحالفات، لاحت معالم بنية دستورية مستقبلية للبنان تتمايل بين اللامركزية الموسعة والفدرالية المستترة، أو هو البقاء في دوامة الوحدة الواهية والانقسام الفوضوي.

وإذا كانت الانتخابات أنهت ولاية المجلس النيابي الممدد له مرتين، فإنها: أثبتت سوء قانون الانتخابات الحالي باعتراف واضعيه، أكدت أن الشعب كفر بالطاقم السياسي الحالي (ارتفاع نسبة المقاطعة) ولم يؤمن بعد بالآخرين (عدم حصول تغيير نوعي)، وهو على حق في الموقفين. أظهرت بقاء أحقاد الحروب الماضية بين الجماعات اللبنانية، كشفت إصرار اللبنانيين على الاستسلام وعدم المحاسبة، طوت صفحة ثنائية 8 و14 آذار، حافظت على 8 آذار وشرذمت 14 آذار، فرقعت المكونات المسيحية والسنية، عززت المكون الشيعي، فرزت تكتلا نيابيا عابر الطوائف والأحزاب تحت رعاية حزب الله أساسا، أبرزت انحياز لبنان إلى الجاذبية الإيرانية/السورية، تركت مجموعات نيابية معارضة على القطعة ومتعارضة في ما بينها لا تتمتع بالصوت التفضيلي داخل المجلس الجديد بل بحاصل يسمح لها بالوجود من دون القدرة، نيابيا، على تغيير ما هو مرسوم منذ أن فرض قانون النسبية بشكله الحالي على اللبنانيين.

الشعوب تقوم بثورات وتخوض حروبا تدوم سنوات يسقط فيها ضحايا من أجل التغيير، فيما أعطينا القدرة على التغيير من دون نقطة دم إنما بنقطة حبر، فلا استعملنا هذا الحق العجائبي ولا قدرنا هذه النعمة الديمقراطية. فرصة ضائعة جديدة. لم يتمكن اللبنانيون بعد من هدم هذا الحائط الذي يفصل بينهم وبين التغيير. مادة بيولوجية تفرز التغيير تنقص الشخصية اللبنانية. كأن لدينا غدة تمتص عافيتنا وتمنع نمو هورمون التغيير. إنها حالة مرضية.

عادة، يجري التغيير من داخل النظام أو من خارجه. بعد هذه الانتخابات حصل "التغيير" الجزئي من داخل السلطة. تبادل أهل السلطة المقاعد ليحتفظوا بها كما يحرك أعضاء أوركسترا فيلهارمونية كراسيهم ليستريحوا في جلوسهم. حتى هذا التغيير جاء نتيجة قوة المال لا إرادة الناس. وما بني سياسيا على المال هو فاسد، وبالتالي، باطل.

ما هو الحدث الذي سيحول قناعة اللبنانيين بالتغيير فعلا تنفيذيا؟ ما هي الصدمة التي ستوقظ هذا الشعب فيطلق شرارة التغيير بكل أشكاله؟ اعتدنا التعايش مع المشاكل عوض إيجاد الحلول. أزمة واحدة من الأزمات التي نعانيها كفيلة بإحداث ثورة في مجتمعات أخرى: نسبة المديونية المرتفعة، مليون ومائتا ألف لبناني تحت خط الفقر، مليون ونصف مليون نازح سوري، نصف مليون لاجئ فلسطيني (وليس أقل)، بطالة تفوق الثلاثين بالمئة، هجرة نازفة، سيادة منقوصة، حدود سائبة، نفايات منتشرة، كهرباء مقننة، مياه مبتذلة، طرق مواصلات سيئة، أقساط مدارس وجامعات باهظة، بحر ملوث، دولة اعتباطية، قضاء نسبي النزاهة، أجور منخفضة، أسواق تجارية جامدة، سياحة غائبة، فساد مزدهر، وقلق على المصير.

خلال هذه السنة تظاهرت الشعوب وانتفضت في أرمينيا وفرنسا ومدغشقر ونيكاراغوا وجنوب أفريقيا والبيرو والبنين والتوغو وإسبانيا، فأسقطت رؤساء جمهوريات وحكومات بسبب فشلهم أو فسادهم أو تشريعاتهم الظالمة أو تمسكهم المزمن بالسلطة. وفي الأرجنتين ذهل الشعب من دور أقارب المسؤولين، فألغى الرئيس موريسيو ماكري 25% من الوظائف التي يشغلها أقارب الرئيس والوزراء، وأصدر قانونا يمنع أقارب المسؤولين من تسلم مهام رسمية.

لا نطالب هنا بإسقاط رئيس الجمهورية، فهو الضمانة. لكن، يجب تغيير مسار السلطة وعمل الحكومات ونهج المسؤولين. وإذا البلاد ليست متجهة نحو الإفلاس ماليا، فإنها بلغت مرحلة السقوط السياسي والأخلاقي. إن ما يعاقب المسؤولون عليه في العالم يكافأون عليه في لبنان.

بعيدا عن الأحلام، هذه حدود التغيير في لبنان في ظل النظام السياسي الطوائفي (الكونفدرالية) والمجتمع اللبناني المؤسس على التبعية المناطقية (الفدرالية). وفي المدى المنظور يستحيل تغيير جوهر النظام وطبيعة المجتمع ونوعية التمثيل قبل حصول تبدل وطني ودستوري وتربوي وديني جذري.

لبنان الواحد ليس وطنا كاملا. نحن نصف وطن ونصف دولة وشعبان؛ وإذا جمعنا النصفين لا يشكلان واحدا، بل أربعة أرباع، لأنهما نقيضان في الولاء والهوية. وإذا جمعنا الشعبين يشكلان دولتين لا شعبا واحدا. الآخر يطالب بالتغيير لأصبح مثله، وأنا أنادي بالتغيير ليصبح هو مثلي. ويبقى لبنان.