محمود سعيد وأصدقاؤه في قصر عائشة فهمي
احتفلت الأوساط التشكيلية والثقافية في مصر بمرور ستين عامًا على رحيل الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد (1897 – 1964) بافتتاح معرض استعادي لبعض لوحاته وبعض لوحات أساتذته وأصدقائه الأجانب، وذلك في متحف الفنون (قصر عائشة فهمي) على نيل القاهرة بالزمالك، ويستمر حتى 15 أكتوبر/تشرين الاول 2024.
وقد نُقلت العديد من لوحات محمود سعيد من مركز متاحفه في جناكليس بالإسكندرية – الذي سبق له الاحتفال بستينية الرحيل – إلى متحف الفنون التابع لقطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة بالقاهرة، من أجل هذه المناسبة الفنية التي افتتحها وزير الثقافة المصري د. أحمد فؤاد هنو وجمع غفير من المسئولين والمثقفين والفنانين ومحبي الفنون الجميلة من المصريين والأجانب.
وقد عُلقت لوحات محمود سعيد على جدران قصر عائشة فهمي، بينما عُلقت لوحات أصدقائه من أمثال أرتور زانييري وكاسوناتا وجوزيف مزراحي وغيرهم، على جدارن مبنى آخر يجاور مبنى القصر الرئيسي.
أثناء زيارتي للمتحف ومشاهدة اللوحات لاحظتُ عددًا كبيرًا من الأجانب والشباب المصري يزورون المتحف ويتأملون اللوحات ويتحدثون عنها وعن الفنان الذي رسمها.
كانت هناك سيدة تسأل رجلا معها – ربما كان زوجها – عن صاحبة اللوحة الكبيرة التي ترتدي فستانا أبيض وتبتسم في حيوية وبراءة وتشع جمالا ونُبلا - والتي في مواجهة الداخل إلى إحدى القاعات الكبرى بالقصر، فأخذ الرجل يتأمل اللوحة، وقال لوحة جميلة فعلا. أدركتُ أنه لم يعرف صاحبة اللوحة أو الفتاة المرسومة في اللوحة، فتطوعت بالإجابة بأن صاحبة اللوحة هي نادية ابنة الفنان محمود سعيد رسمها عام 1946 في واحدة من أربع لوحات رسمها لابنته الوحيدة.
ثم أشرتُ إلى لوحات أخرى بجانب لوحة "نادية في الرداء الأبيض" وقلت لهما: أما صاحبة هاتين اللوحتين فهي سميحة هانم رياض زوجة الفنان محمود سعيد، وقد رسم اللوحة الأولى عام 1924 بعد زواجه منها عام 1922.
شكراني ومضيتُ في حال سبيلي أتأمل بقية اللوحات، وأستعيد بعض الذكريات، وأتذكر بعض العبارات التي كتبتها في روايتي الأولى عن محمود سعيد وهي رواية "اللون العاشق" التي هي عبارة عن سيرة لوحة "بنات بحري" التي رسمها الفنان عام 1935، والتي لم تكن معروضة في هذا المعرض لأعمال الفنان. كنت أتمنى رؤية البنات أبطال اللوحة وأطمئن عليهن. كما تذكرت عبارات أخرى كتبتها في روايتي الثانية عنه وهي رواية "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد"، - وترجمت إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية - وتحمستُ لإنهاء الرواية الثالثة عنه وهي بعنوان "الكتالوج"، لأغلق بها "ثلاثية محمود سعيد الروائية".
في نشوة مشاهداتي للوحات محمود سعيد وجدتني أبحث عن لوحات أخرى رأيتها في كتاب "الكتالوج المسبب" عن محمود سعيد وأعماله، الذي وقع في جزئين، تحرير الناقدة الفرنسية فاليري ديدييه هيس ود. حسام رشوان. لكنني لم أجدها في المعرض، فربما لم تنقل من الإسكندرية، أو هي في أماكن أخرى أو لدى بعض الذين اقتنوا لوحات الفنان.
كانت – بالدور العلوي - لوحة "حورية البحر" و"المستحمة" وغيرهما من العاريات التي لم يخجل بعض الشباب من الزائرين من مشاهدتها، بل وقفن يتأملن جمال الجسد الأنثوي وهو في كامل عريه، وسط ماء البحر، أو ماء البحيرة.
لقد ولد محمود سعيد في الإسكندرية في 8 أبريل من عام 1897 فكانت هي المكان الذي استيقظتْ فيه روحه وظهرتْ فيه مشاعره الفياضة من خلال لوحاته. وألقى البحر بظلاله ونوره وشباكه وصياديه على الفنان، فرأيناه في معظم لوحاته بطلا رئيسيا، أو بطلا مساعدا في اللوحة. لقد كان البحر بطلا في لوحة "عاصفة على الكورنيش" (1944)، وبطلا مساعدًا في لوحة "بنات بحري" (1935) على سبيل المثال.
ويفسر الناقد الفني د. نعيم عطية نور البحر بقوله: "إن أي شخص لم يعش في الإسكندرية بكل قلبه وروحه، لن يتمكن من أن يفهم تمامًا ما هو المقصود حقًا بنور البحر. تعكس الأمواج الضوء، وتتلاعب به، وتمتصه من الشمس والقمر والنجوم، ومن البانوراما المحيطة بها بشكل أو بآخر".
لم يأت فن محمود سعيد من فراغ، فإلى جانب موهبته العظيمة درس وتعلم وسافر وارتاد المعارض والمتاحف والكنائس في أوروبا منذ شبابه وفور تخرجه في مدرسة (كلية) الحقوق الفرنسية عام 1919. تأثر في بداياته بعدد من الفنانين العالميين من أمثال روبنز ورمبرانت، وقال: "أحببت أعمال روبنز لحركتها وحيويتها، ورمبرانت بسبب المؤثرات الضوئية اللافتة التي استخدمها، وكذلك العمق والإنسانية وتحليل الشخصيات في أعماله".
كما أعجب بعد ذلك بالبدائيين الفلمنكيين من أمثال جان فان إيك، وهانس ميملينج. وقد وجد في لوحاتهم شعورًا غنائيًّا داخليًّا. كما تأثر بالألوان التي استخدمها أساتذة البندقية من أمثال جيوفاني بيليني وكارباتشيو. كما أعجب أيضًا بفان جوخ وديلاكروا وسيزان ورينوار.
ثم يوسع محمود سعيد دائرة أساتذته فيقول: "أسيادي هم جميع المتاحف التي زرتُها وجميع المراسِم التي ذهبتُ لرؤيتها. خلال صيف 1919 و1920 و1921، سافرت إلى باريس حيث درست في متحف اللوفر، وحضرتُ دروس الرسم في غراند شومير (في القسم "المجاني"، بدون أي أساتذة) وقضيتُ شهرًا واحدًا في أكاديمية جوليان مع أ. لورينز".
كما جذب محمود سعيد عمالقةُ الماضي الذين أحبهم بشغف مثل ليونادرو دافنشي، ومايكل أنجلو الذي يقول عنه إنه "الفنان الوحيد الذي ارتفع فوق البشرية".
ومن هنا كان حرص قطاع الفنون التشكيلية برئاسة الفنان د. وليد قانوش على الاحتفاء أيضا بأساتذة محمود سعيد وأصدقائه وزملائه من الفنانين الذين عاصرهم وتعلم على أياديهم واستفاد من توجيهاتهم، فمحمود سعيد لم يسلك مسلكًا نظاميًّا أو أكاديميًّا في دراسته للفن. وإنما حضر دروسًا فنية خاصة قدمتها كاسوناتو من عام 1914 إلى 1916، ثم واصل تدريبه الفني في استوديو أرتورو زانييري في الإسكندرية – وكلاهما من خريجي أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا - في الوقت الذي كان يتدربُ فيه أيضا – مضطرًا - للعمل كمحامٍ، امتثالاً لرغبة والده محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر الأسبق خلال أكثر من فترة (1910 – 1914) ثم أثناء عام 1919.
يقول الفنان أحمد راسم صديق محمود سعيد وابن عمه: "في استوديو الرسام الشهير أرتورو زانييري، الموجود فوق استوديو التصوير الفوتوغرافي في (شارع النبي دانيال) في ذلك الوقت، تعلم حوالي خمسة عشر فنانًا متدربًا كيفية الرسم تحت إشراف معلمهم. وضمت مجموعة الأصدقاء القاضي هيروس، جوزيبي سكاستي، شريف صبري، محمود سعيد، جورج خوري وآخرين. ومع ذلك، اضطر زانييري إلى إغلاق الاستوديو الخاص به بعد عامين، مما أدى إلى كسر سلسلتنا بقسوة وتشتيت دائرة الفنانين لدينا. وبعد زانييري، واصل محمود سعيد العمل الصعب، متأثرًا بطبيعته الخاصة، وبالبيئة المحيطة التي نشأ فيها، والإلمام ببعض الاتجاهات الفنية".
من أصدقاء محمود سعيد الآخرين الذين عُرضت بعض أعمالهم في هذه المناسبة: أرستيد بابا جورج المولود في الإسكندرية عام 1900، وجوزيف مزراحي المولود في المحلة الكبرى عام 1895، واشتهر برسم مناظر لأرصفة باريس ولمناظر الطبيعة في فرنسا. وكليا بدارو المولودة في القاهرة عام 1913 واتخذت لها مرسمًا في الإسكندرية.
وعلى الرغم من ريادة محمود سعيد للفن التشكيلي في مصر – والتي اعترف بها الجميع، فاستحق الحصول على جائزة الدولة التقديرية عام 1960 كأول فنان تشكيلي يحصل عليها - فإنه يجزم أن "الإنجازات والتغييرات الرائدة التي هزَّت مشهد الفنون البصرية في مصر لم تكن نتيجة لجهود شخص واحد، ولا فقط لجهود زملائي العظماء بل كانت نتيجة الجهود المشتركة لجيل كامل من الفنانين والمثقفين ومحبي الفنون الجميلة".