مشهد سوري في انتخابات مصرية

مجموعة من الشباب وقفوا عند مدخل 2 في حي الشيخ زايد بمدينة 6 أكتوبر القريب من القاهرة، صباح الاثنين، يحضون المواطنين على ضرورة التصويت في الانتخابات الرئاسية. لهجتهم تؤكد أنهم غير مصريين. اقتربت منهم وتبينت أنهم من سوريا.

سألت أحدهم عن السبب الذي دفعهم للقيام بهذا التصرف، وهل يقومون بهذا العمل لحساب أحد؟ أكد من سألته وزملاءه أنهم أحبوا مصر وشعروا فيها بالأمان، ورأوا أن زيادة نسبة التصويت في الانتخابات تمثل ردا قويا على من شككوا في الاستقرار الحاصل في البلاد. برروا دعوتهم الناس للتصويت بأنها أقل شيء يقدمونه اعترافا بجميل بلد وناس آووهم في وقت بخلت عليهم دول أو تاجرت بمعاناتهم.

موقف الشباب السوري، يمكن قراءته بعيون كثيرة. هناك من يرى فيه تعبيرا عن ولادة جديدة لعدد من مواطني دولة لم تنجرف مصر وراء من شاركوا في ذبحها. ومن يرى فيه نفاقا أو ايثارا لسلامة تنشد البقاء. غير أن الرسالة المهمة في الفعل التلقائي الذي ينطوي على اندماج وأمان ومودة لن تنمحي من ذاكرة المصريين والسوريين.

القصص التي يمكن أن تسمعها من سوريين وغيرهم من دول عربية مختلفة تؤكد أنهم بدأوا حياة ملهمة في مصر. حياة أنستهم جانبا من المعاناة القاسية. بعيدا عن الخوف وأصوات الصواريخ وأزيز الطائرات واستقطاب الطوائف وعنف الميلشيات. لم يحشروا في مخيمات ومعسكرات لاجئين، أو يواجهوا اهانة لمجرد أنهم هاجروا قسرا من بلدهم.

غالبية من تقابلهم من أشقاء عرب جاءوا من سوريا وليبيا والعراق واليمن، تعايشوا مع المجتمع وانخرطوا فيه بسهولة. لا تستطيع التفرقة بين مصري وعربي. مواطنو مصر المعروف عنهم القدرة على صهر عناصر كثيرة من الأجانب في نسيجهم وصبغ عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم عليهم، ظهر تأثرهم بمعاناة وسلوك غيرهم وازداد تمسكهم بأهمية الحفاظ على دولتهم موحدة.

كلما التقيت مصريا كانت له تجربة احتكاك مع عائلة سورية، تجده يتحدث عن أهمية الأمن والاستقرار الذي تعيشه مصر. الحديث يبدو تلقائيا وبلا أهداف سياسة أو دعائية.

تكلم مع سائق تاكسي أو بائع في متجر صغير أو عامل مصري في مطعم سوري، تستمع لحكايات عجيبة، جميعها تبدأ بالاشادة بأخلاق السوريين وتنتهي بالاعتراف بنعمة الأمن والاستقرار. كل سوري يحمل على كتفيه جرحا عميقا مخضب بالدماء، يشعر به مصري لا يريد تكرار تجربته.

أعرف سيدة مصرية منحت شقة لعائلة سورية عن طيب خاطر وبلا مقابل. حكايات المشاركة الوجدانية عديدة، كلها تؤدي إلى معادلة واحدة، هي إذا جرت المفاضلة بين الأمن والطعام، فالاختيار سيكون للأول بامتياز.

ربما تكون هذه المعادلة لا ترضي البعض أو يرى فيها آخرون متاجرة بآلام الناس، لكنها في النهاية تعكس واقعا يهم طبقة فقيرة وعريضة من المواطنين. ذاق أفرادها معنى الخوف وعرفوا خطورته على حياتهم، ويخشون المرور بألم يشبه ألم الشعب السوري الشقيق.

المشهد السوري أرخى بظلاله على الانتخابات المصرية، وجعل كثير من الناس يذهبون إلى صناديق الاقتراع، حرصا على الأمن ورغبة في استمراره. ربما يكون ما حدث من توترات وصراعات في دول حولنا أحد الأسباب المباشرة لتقبل الناس قسوة الأزمات الاقتصادية الناجمة عن إجراءات ضرورية للإصلاح.

الشعور بعدم التململ من المشكلات وتقدير قطاع كبير من المواطنين لما يظهر من مشروعات تنموية، دفع الحكومة للمضي في خطوات جريئة للإصلاح الاقتصادي، وهي على يقين من الاستجابة، مستفيدة من بشاعة ما جرى في سوريا من دمار.

ارتفاع مستوى الادراك الجمعي لدى المواطنين، والخوف من مشاهد الاقتتال الأهلي، فوت على من نادوا بمقاطعة الانتخابات الفرصة، بعد أن تمنوا عدم اتمامها أصلا. محاولات الترهيب بالعبوات الناسفة وعمليات العنف والبرامج التحريضية أخفقت في تحقيق غرضها.

لم يدرك هؤلاء حجم التغير في مصر. لم يعبأوا بما يراه المشاهدون من خراب في سوريا. لم يتيقنوا أن المواطنين استوعبوا عواقب انهيار الدول واعادة البناء تحتاج لعقود طويلة.

لا زالوا يعيشون في عالم يأبى الاعتراف بالحقائق على الأرض. عالم يعرف حجم الزيف الذي يرتكبه القائمون عليه، لكن يصعب تخليهم عن الوهم، لأنه وسيلة وحيدة للبقاء في أماكنهم بالخارج وعلى مقاعدهم خلف الشاشات. لم يستوعبوا أن المصريين حريصون على بلدهم ويصعب خداعهم مرة أخرى بشعارات دينية براقة.

قد تكون هناك حالة من عدم الرضا لدى فئة من المواطنين تستعجل جني الثمار، وحتى هؤلاء لم ينكروا وجود تطورات في الواقع. تململهم أحيانا بهدف السعي نحو مستقبل أفضل، وتحقيقا لأمنيات تراودهم في أن يكون بلدهم أكثر قوة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتحول إلى رقم أساسي في أي توازنات إقليمية جديدة.

تقديرات عدد كبير من المراقبين تؤكد أن الفترة الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي في الحكم، ستكون مختلفة في نواحي كثيرة. تثبيت الأمن كان عنصرا أساسيا لفتح المجال أمام كل من ينتهج العمل السياسي بصورة سلمية. توسيع نطاق الحريات مسألة مهمة في طريقها للتحقق بعد وضع الكثير من القوانين التي تضبط ايقاع الفضاء العام.

الدروس المستفادة من سوريا كثيرة ومتعددة. أهمها بناء قاعدة متينة في الداخل يصعب اختراقها، ووضع مشروعات طويلة الأمد تخدم أجيالا مختلفة، والابتعاد عن تجيير الحكم لخدمة شخص واحد وعائلة واحدة، أو طبقة سياسية بعينها، أو طائفة مذهبية تريد أن تستحوذ على مقاليد الأمور.

بناء حوائط سد في الداخل مسألة مركزية لصد محاولات الهدم القادمة من الخارج. السرعة التي تسير بها عملية البناء استوجبت استنفار جهود كثيرة، والعمل بما هو متاح من امكانيات، اصطحب معه أخطاء لكن لم تكن ذات تأثيرات جوهرية. توظيف الجهة أو الجهات المستعدة للعطاء، جاء أملا في الوصول لنقطة انطلاق يشعر الناس بمردودها وتبعدهم عن شبح المشهد السوري بكل ما يحمله من تحديات للبقاء.