
مصر تتبنى لهجة أكثر صرامة في ملف سد النهضة
القاهرة - في مؤشر واضح على تحول استراتيجي في موقفها من أزمة سد النهضة، أطلقت مصر تحذيرات جديدة بشأن التداعيات الإقليمية المحتملة للصراع المائي مع إثيوبيا، مشيرة إلى أن نفاد صبرها بات واقعًا ملموسًا، وأن خياراتها قد تتجاوز الإطار التفاوضي التقليدي.
وخلال مشاركته في فعاليات اليوم الثاني من منتدى قادة السياسات الذي تنظمه غرفة التجارة الأميركية في القاهرة، أعرب وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي عن قلق بلاده العميق إزاء استمرار الجمود في ملف سد النهضة، ملوّحًا بإمكانية أن تشهد المنطقة توترات إضافية ما لم تُعالج الأزمة بمسؤولية وجدية من الجانب الإثيوبي.
التحذيرات التي جاءت على لسان عبدالعاطي لم تكن مجرد تصريحات دبلوماسية عابرة، بل بدت كمقدمة لمرحلة جديدة من الضغط السياسي، في ظل ما تراه القاهرة "استفحالاً" في أزمة المياه التي تمسّ مباشرة أمنها القومي. وقال الوزير إن "الوضع الإقليمي لا يحتمل مغامرات إضافية في ملف حيوي كالمياه"، مشيرًا إلى أن استمرار إثيوبيا في بناء وتشغيل السد دون اتفاق ملزم يمثل تهديدًا جديًا لاستقرار المنطقة.
وتوقفت المحادثات بين القاهرة وأديس أبابا منذ أواخر عام 2023، بعد فشل عدة جولات تفاوضية برعاية أفريقية ودولية، وهو ما حمّلته مصر إلى "تعنت إثيوبيا وإصرارها على فرض سياسة الأمر الواقع"، وسط تجاهل مستمر للنداءات الدولية بضرورة الوصول إلى تفاهم ثلاثي شامل يراعي مصالح مصر والسودان.
التطور اللافت في الخطاب المصري يعكس تحوّلًا في طبيعة تعاطي الدولة مع الأزمة. فبينما ظلت القاهرة لعقد كامل تراهن على التفاوض والوساطات الدولية، تبدو الرسائل الأخيرة أكثر حزما وتستبطن خيارات أخرى، بينها التصعيد الدبلوماسي وربما ما هو أبعد من ذلك.
اللافت أن هذا التحول يتزامن مع تزايد الضغط الداخلي، في وقت تعاني فيه مصر من أزمة مياه خانقة دفعتها إلى إقرار تشريعات جديدة لترشيد الاستهلاك، وخطط لإعادة هيكلة استخدامات المياه في الزراعة والصناعة والمنازل، ما أثار جدلا واسعا بين فئات المجتمع.
ويبدو أن القيادة المصرية باتت تعتبر أن "اللعب على الوقت" الذي تمارسه إثيوبيا لم يعد مقبولا، خاصة مع إعلان الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2023 عن إتمام المرحلة الرابعة من ملء خزان السد بشكل أحادي، في خطوة اعتبرتها مصر "انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ولاتفاق إعلان المبادئ الموقع في 2015".
وتحذيرات القاهرة تتزامن مع أزمات متعددة تمزق المنطقة، من الحرب المستمرة في السودان إلى العدوان المتصاعد في قطاع غزة، مرورا بالتوترات في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وفي مثل هذا المناخ، ترى مصر أن العبث بالموارد الحيوية – وفي مقدمتها نهر النيل – يمكن أن يفجر صراعات جديدة ويغذي حالة عدم الاستقرار.
ويعتمد أكثر من 98 في المائة من سكان مصر على مياه النيل كمصدر رئيسي للشرب والري والصناعة، وهو ما يجعل أي نقص في الحصة المائية الحالية تهديدًا مباشرا للأمن الغذائي والاقتصادي للبلاد، فضلاً عن تأثيره على الحياة اليومية للمواطنين.

في المقابل، تواصل الحكومة الإثيوبية الترويج لسد النهضة كمشروع تنموي استراتيجي يهدف لتوليد أكثر من 5.000 ميغاواط من الكهرباء، لتغطية احتياجات نحو 60 في المائة من السكان الذين يعانون من نقص حاد في الطاقة. وتصر أديس أبابا على أن السد لن يسبب ضررًا كبيرًا لدول المصب، وتستند إلى إعلان المبادئ لعام 2015، الذي ينص على الاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل.
ومع ذلك، ترفض إثيوبيا التوقيع على أي اتفاقية ملزمة تنظم آليات ملء وتشغيل السد، لا سيما خلال فترات الجفاف، مما يثير شكوكًا حول نواياها الحقيقية، خاصة وأن ملف المياه بات أداة ضغط يمكن استخدامها سياسيًا في محيط إقليمي متشابك المصالح والتوازنات.
وفي ظل هذا المشهد، تزداد القناعة في الأوساط السياسية والإعلامية المصرية بأن الموقف لم يعد يحتمل المزيد من المرونة، وأن الاستراتيجية المقبلة قد تتضمن أدوات ضغط جديدة، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، لضمان حماية الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل.
ومع غياب مؤشرات على انفراج قريب في المفاوضات، تبقى رسائل القاهرة الصارمة بمثابة إنذار مبكر بأن أزمة سد النهضة دخلت مرحلة جديدة، تتجاوز الحسابات الفنية إلى حسابات الأمن القومي الإقليمي، في وقت تزداد فيه سخونة الملفات السياسية والعسكرية على امتداد خريطة الشرق الأوسط وأفريقيا.