مصر.. عن الإخوان والوطن والمستقبل

تصدر بيانات رسمية للجماعة وتعقد اجتماعات تنظيمية وسياسية وتشكل جبهات في الخارج هل كل هؤلاء تحت حصار يمنعهم من الكلام ويحرمهم من الرد ويحول بينهم وبين توضيح وجهات نظر الجماعة؟ أعضاء مكتب الإرشاد الذين يديرون شؤون الجماعة الآن خارج مصر ووزراء في حكومة الإخوان أيام مرسي ومستشاروه وأعضاء برلمان الإخوان لكنهم اعتادوا العيش في سرداب المظلومية.

  بقلم: جمال سلطان

أقدم أعداء جماعة الإخوان وأشدهم خطرا عليها هو سرداب "المظلومية" التي يلجأون إليه كلما ضاق عليهم حصار النقد أو ارتكبوا أخطاء وخافوا من الاعتراف بها أو وقعت كوارث وحاروا في تبريرها لكوادرهم وللناس، فمنذ نشأة الجماعة عام 1928 وحتى الآن، ولا توجد أي مراجعات سياسية جادة في أي موقف على مدار هذا التاريخ الطويل الذي يقترب من قرن من الزمان، دائما هناك التستر بالضغوط المحيطة بالجماعة، وتربص القوى العالمية أو المحلية بها، أو تعرض أعضاء فيها للسجون أو الملاحقات أو التضييق، تسعون عاما يطالبون الجميع بأن يؤجلوا نقد الجماعة حتى تأتي الظروف المناسبة والوقت المناسب، وسوف ينتظرون ـ بتلك الطريقة وفي هذا السرداب ـ إلى العام 2090 ولن يأتي هذا الظرف المناسب والوقت المناسب!

هذه طريقة سهلة للهروب من المسؤولية ومن التحقيق ومن الاعتراف بالخطأ ومن المحاسبة على تلك الأخطاء أيضا، ولكن مشكلتها أنها تجعل المخطئ يفلت دائما بخطأه، كما تشجع الآخرين على ارتكاب المزيد من الأخطاء مطمئنين إلى عدم محاسبتهم، إضافة إلى الأخطر وهو حرمانهم من خبرات المحن والأخطاء، فلا يتعلمون أي درس، لأنك حتى تتعلم من أخطائك لا بد أن تعترف أولا أنها أخطاء، ثم تبحث عن سببها وما أدى إليها لكي تتفاداه، وهذا ما حرموا منه منذ نشأة جماعتهم، لأن "بدعة" المظلومية وسردابها الذي يأوون إليه بصفة دائمة لا تسمح بذلك .

على مدار الأسبوع الماضي، قدمت عدة مقالات نقدية أقرب لمراجعة شاملة لتجربة الإخوان في مرحلة ثورة يناير إلى أن سقط نظامهم في 2013، فثارت ثائرتهم، وقامت جحافل من النشطاء بالهجوم على شخصي وشتيمتي، دون أي مناقشة أو رد على الفكرة ذاتها، كما نشروا مقالات لأعضاء الجماعة وأنصارها كما خصصت حلقات تليفزيونية في قنوات فضائية تابعة للجماعة للرد علي، كما هاجمني المتحدث الرسمي باسم الجماعة في قناة الجزيرة، كل ذلك ثم يقولون لك: هل من المروءة أن تنتقد جماعة هي بين قتيل وسجين وشريد ولا يتمكنون من الرد عليك؟ وعبثا تسألهم عن هؤلاء جميعا الذين ردوا عليك أو هاجموك أو انتقدوك أو شتموك أو حاوروك، هل هم كائنات افتراضية، "زومبي" مثلا، ميكي ماوس، أم أنهم أعضاء الجماعة ومكتب ارشادها ووزراؤها وإعلاميوها، وهل القيادات التي تدير مصالح اقتصادية ضخمة في الخارج وتشرف على نشاطات سرية حتى الآن في مصر وتشكل الوفود لمقابلة أعضاء بالبرلمانات الأوربية في العواصم المختلفة، وتلتقي قيادات رسمية في عدد من الدول.

 تصدر بيانات رسمية للجماعة وتعقد اجتماعات تنظيمية وسياسية وتشكل جبهات في الخارج، هل كل هؤلاء تحت حصار يمنعهم من الكلام ويحرمهم من الرد ويحول بينهم وبين توضيح وجهات نظر الجماعة؟ أعضاء مكتب الإرشاد الذين يديرون شئون الجماعة الآن خارج مصر ووزراء في حكومة الإخوان أيام مرسي ومستشارون للرئيس مرسي نفسه وأعضاء برلمان الإخوان، كل هؤلاء في الخارج الآن يصولون ويجولون، فإذا انتقدت الجماعة قيل لك : أنت تنتقدهم وتعرف أنهم عاجزون عن الرد لأنهم في السجون أو تحت التراب، هذا سفه، هذا نوع من الادمان على "المظلومية"، يستسهلون أن يلوذوا بها هربا من المواجهة المسئولة، وهربا من الاعتراف بأخطائهم في حق أنفسهم وفي حق الوطن، لذلك لا يتعلمون ولا يصححون ولا يتطورون.

تمنيت أن يكونوا مشغولين بالرد على الأفكار التي طرحتها، وأن ينشغلوا ببيان عوارها أو النقص فيها أو الزلل، ولكنهم بدلا من ذلك، كانت الردود بالكامل تقريبا، محض شتائم وبذاءات، وهو أمر شعرت ـ شخصيا ـ بالحرج منه، لأن هؤلاء جميعا يحسبون على التيار الإسلامي الذي أنتمي أنا له، فشعرت بأن عرض التيار الإسلامي كله ينتهك على مرأى ومسمع من الناس، وليس عرضي الشخصي، فقد تصدقت به منذ اشتغلت بالعمل العام، هل هذه البذاءة والانحطاط الشديد في الألفاظ والتعليقات يمكن أن تصدر عن "أسوياء" فضلا عن أنصار دين أسوته رسول وصفه ربه بقوله الحكيم "وإنك لعلى خلق عظيم"، وقال فيه عالمهم "ابن القيم": "والدين كله خلق فمن فاقك في الخلق فاقك في الدين"، وقال فيه شاعرهم "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت"، فهل هؤلاء هم الذين يوكل إليهم نصرة هذا الدين العظيم، دين الأخلاق العظيمة، وهل هؤلاء هم الذين يمثلون تلك الأمة التي وصفت بأنها "خير أمة" ؟ هل هؤلاء هم الذين يتحدثون عن "أستاذية العالم"، هل ستعطون العالم دروسا في هذه البذاءة، وهل وصف "الجماعة الربانية" يتسق مع تلك الأخلاق، وهل يدرك هؤلاء، ومن يحركهم أو من وضعوا لهم مناهج التربية، أن هذا الذي حدث يعزز فقدان الثقة فيهم لدى الآخرين، وأنه لا أمل في صلاحهم ولا أمان معهم، وإذا كان كل هذا العنف مع المخالف وأنتم لا تملكون سلطة وأدواتها، أو وأنتم بين سجين ومشرد كما تقولون، فكيف إذا كانت معكم سلطة وأجهزتها وأدواتها التنفيذية، ماذا ستفعلون بالناس حينها، أي رعب هذا الذي تصنعونه في قلوب الناس لتنفيرهم منكم وخوفهم من نواياكم إذا أتيحت لكم فرصة سلطة أو حكم .

أيضا، مسألة شيطنة الآخرين، والحط من قدرهم، على خلفية الخلاف السياسي، رهان خاطئ جدا في العمل السياسي، فكل من ينتقد الجماعة هو خائن وهو عميل وهو تابع لهذه السلطة أو تلك الدولة أو هو مرتزق وصاحب مطمع لدى هذا أو ذاك، ولا يمكن افتراض أنه صاحب رأي مخالف أبدا، لأن تقديرك أنه صاحب رأي يستدعي مناقشة الرأي، وهم لا يريدونها معركة رأي، هي معركة تشويه وردع بالسباب، يستبيحون فيها كل حرام وكل زور من القول، والمدهش أن بعضهم يعلق على الشتائم قائلا : ألم تقرأ التعليقات ألم تصلك الرسالة؟! بينما آخرون يتصنعون المكر البدائي ويتساءلون في براءة : ومن أدراك أن هؤلاء من الإخوان؟! بينما يحدثك آخرون عن أنهم هم الذين دفعوا الثمن وحدهم، وهو كلام غير صحيح فهناك من القوى المدنية التي تعارضهم من دفعوا الثمن أيضا من دمهم بعد 30 يونيه، وبعضهم ما زال مسجونا، وبعضهم في المنفى، ولو كانوا ممن يبيعون ضمائرهم لحجزوا مكاسب ومناصب مميزة في المركب الجديد، وهناك بعض التافهين حاليا يتبوأون مناصب رفيعة، سياسية وبرلمانية وإعلامية .

كذلك يهربون من مناقشة الفكرة إلى تصور إحراجك بفكرة أخرى، فإذا تحدثت عن أخطاء لهم قالوا لك : ولماذا لا تنتقد حزب النور، ولماذا لا تنتقد السيسي، رغم عشرات المقالات بل مئات المقالات التي انتقدت فيها النظام والسيسي شخصيا، على مدار السنوات الخمس الماضية، وكثير منها كانوا يحتفلون بها في قنواتهم ومواقعهم ويعيدون نشرها أو التغزل فيها، ووقتها لم أكن خائنا ولا انقلابيا ولا عميلا ولا ساقطا ولا مرتزقا، لأني أنتقد غيرهم، فلما انتقدتهم هم أصبحت جامعا لكل هذه السوءات !، وأحيانا يلزمونك بما لا يلزم أبدا، فيقولون أن نقدك لهم هو خدمة للنظام، وهي محاولة لإسكاتك أو إحراجك، هروبا من المواجهة المسؤولة، وأحيانا يهربون من الحجة والدليل بأن ينسبوا إليك أنك كنت طامعا في مغنم عندهم فلما تعذر انتقدتهم، وهذه "اللعبة" شائعة عند الإخوان لإحراج منتقديهم دائما، وأذكر أيام مرسي لما اختاروا الصحفي "خالد صلاح" رئيس تحرير اليوم السابع ليكون عضوا في المجلس الأعلى للصحافة الذي شكلوه، وهو أرفع جهة تشرف على الصحافة المصرية القومية والخاصة، قلت لهم : أليس خالد هذا الذي قلتم لنا فيه ما قاله مالك في الخمر، ألم تجدوا من آلاف الصحفيين إلا هو لتختاروه مشرفا على الصحافة المصرية ؟، فردوا علي وقتها بأني كنت طامعا في أن يختاروني مكانه فلما لم يحدث انتقدت اختياره، فأمسكت عن الحديث وتركتهم وشأنهم في الاختيار، لأن الكلام لم يعد له معنى ولا جدوى ولا يتسق مع أي مستوى من الأخلاق .

بالمناسبة، بعضهم شبهني بالصحفي والبرلماني مصطفى بكري، والطريف أن بكري هذا هو الذي أخذه الإخوان بالأحضان في 2012 وهتفوا له طويلا تحت قبة البرلمان الذي يسيطرون عليه، عندما شتم الدكتور محمد البرادعي واتهمه بالخيانة الوطنية، فلجأ البرادعي للقضاء لإنصافه، فطلبت الجهات القضائية رفع الحصانة عن مصطفى بكري ليتسنى التحقيق معه، فتصدى الإخوان ببسالة لحماية بكري، ورفضوا رفع الحصانة عنه، وبسطوا عليه حمايتهم، وهتفوا له يومها وغنوا طويلا !.

على كل حال، التفاصيل الصغيرة تضيع المعاني الأهم، وقيمة المراجعات النقدية هي للمستقبل وليست للماضي، فأي اشتباك فكري لن يعيد ما فات، وإنما قيمته أن يحصننا من زلات المستقبل، وأن يجعل اختياراتنا وخبراتنا الجديدة أكثر عقلانية وحكمة وصوابية، وهذا ما قصدته من تلك المقالات، والتي بدت قاسية ومؤلمة، وهي قسوة قصدتها لإفاقة وعي مخدر ومترع بالثقة في أنه لم يخطئ أبدا .

أرجو أن يعود الإخوان والتيار الإسلامي أيضا إلى تلك المقالات مجتمعة، بالقراءة الهادئة بعيدا عن التوتر والعصبية، فما زال الأفق مفتوحا على مفاجآت، ومن لم يتعلم من تجاربه السابقة لن يمكنه أبدا أن يستفيد من فرص المستقبل .