معبد بران.. الحلقة المفقودة في تاريخ الحضارات اليمنية

صنعاء
عرش بلقيس الشهير كان يوما ما قائما في هذه البقعة

مثلت الاكتشافات الاثرية الجديدة لاربع بنايات من قوام معبد بران، والتي شيدت على انقاض بعضها البعض خلال ما يزيد عن 500عام منذ القرن العاشر ق.م، انقلابا اثريا كان له الفضل الاكبر في نظر الكثير من الباحثين وعلماء الآثار في اماطة اللثام عن سلسلة من أبرز الحلقات المفقودة في تاريخ اشهر الحضارات اليمنية القديمة.
وكانت بعثه تنقيب المانية قد ازاحت الستار في نوفمبر الماضي عن ملامح هذا الكنز الاثرى الذي يقدر عمره "بثلاثة آلاف عام" والذي ظل لقرون طويلة مطمورا تحت كثبان مدينة مأرب شأنه في ذلك شأن الكثير من الآثار والمعالم الاثرية القديمة التي لا تحتاج لأكثر من نفض أكوام الرمال عنها لتنتصب واقفه من جديد.
ويقول علماء الآثار "أن عرش بلقيس الشهير تسمية شعبية خاطئة لمعبد سبأي قديم هو معبد بران الذي حفر على احد اعمدته اول نقش سبأي "دونه الرحالة النمساوي "أدوارد جلازر" في العهد السبأي الوسيط وكان يتحدث عن رب المعبد "المقه" وهو رمز لآلهة القمر عند السبأين القدامى، فيما تعنى "بران" الاسم السبأي القديم لقسم من الجنة اليسرى في وادى مأرب حيث يوجد المعبد وسط الحقول خارج حدود المدينة.
وقد كشفت دراسة اعدها باحثون المان، هم يور كاردوفوجت وفير نرهربرج ونيكول رورينج، أن ترسبات التربة والرمال الزاحفه بدأت تطمر مجمع بران منذ القرن السابع الميلادي، وهو ما أدى الى ان يصبح المعبد مهجورا بعد ان كان من أبرز المتنسكات، ودفنت المباني الثلاثة الاولي للمعبد المنصة الكبرى لمبناه الرابع والاخير. ولم يكن قد تبقى من عرش بلقيس سوى خمسه أعمده ونصف عمود مكسور تصطف على تل يرتفع ثلاثة أمتار عن الحقول المجاورة عندما بدأ التنقيب في موقع العرش أو المعبد عام 1988.
ويعتقد الباحثون أن معبد بران شيد لاول مره في القرن العاشر ق.م، ولا يستبعدون امكانية رجوع ذلك الى تاريخ أقدم، واقيم مبنى ثان في المعبد على انقاض المعبد الاصلي حيث استخدمت في بنائهما حجارة منحوتة من صخور بركانيه.
ويرجع خبراء الآثار إنشاء المبنى الثاني للمعبد الى مطلع الالف الاول ق.م وظل قائما حتى الربع الأخير من القرن التاسع ق.م في حين مازال الغموض يكتنف تاريخ إنشاء المبنى الثالث في معبد بران. كما يعتقد الباحثون ان ثمة تغييرات جذريه قد اجتاحت أركان المعبد خلال القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد حيث بنى جدار المنصة الكبيرة للمبنى الثالث بحجارة من "البلق" وشيد المبنى الرابع للمعبد على انقاض المباني السابقة وذلك في اواخر القرن السادس أو الخامس ق.م عندما بلغت مملكة "سبأ" أوج ازدهارها واضيف له فناًء فسيحاً ليصبح مجمعا فخماً لائقاً لاقامه الاحتفالات للمعبود"إلمُقه" وتألف المبنى الرابع من بيت للصلاة ومساحة معبده وأروقه وتميز ببوابة خارجية ذات أعمده ستة صخرية.
وخلال هذه الفترة شكل معبد بران وحدة معمارية متناسقة بشكل يوحي بخاصية ذوقيه مرتفعه - حسب وصف الباحثين الالمان- وأضيفت للمبنى الاخير مساحة أمامية مربعة لها أروقه بأعمدة ترتفع حوالي "4" أمتار وزينت بمنحوتات البلق والقاعدة الحجرية المنحوتة من محاجر "الخدره" وهي منطقه في صرواح على بعد (40) كيلو مترا الى الشمال الغربي من مأرب.

مراحل تطور المعبد
توضح البقايا المتصلبة والمتراكمة من معالم معبد بران مراحل تطور المعبد الرابع والاصلاحات والتوسعات التي حدثت بين القرنين السادس والخامس ق.م وأواخر القرن الرابع للميلاد. وتعتبر البوابة الخارجية والساحة الامامية والمنصة وسور الطين الفخم أبرز الوحدات المعمارية للمعبد، كما يحيط بالساحة الامامية سور مبنى بأحجار كليسية ما تزال بعضها تحمل نقوشاً سبأية نذريه وإدارية،
حيث توجد نقوش مدونه بخط المسند السبأي وكتبت أقدم النقوش على طريقه "سير المحراث" وقدمت نذوراً "للمقه".
ويتحدث أحد النقوش في الساحة الامامية عن مرسوم إداري للمعبد يتعلق بالواجبات المترتبة على انتهاك حرماته.
وكانت النذور التي تقدم للمعبد تنقش على موائد القربان واحجار البلق المهندمة، وتوجد اسماء معبودات سبأية "كهوبس وعثتر"منقوشه بكثافة في الزاويه الجنوبية الغربية للمساحة الامامية.
كما عثر الباحثون على ثلاث منحوتات بلقيه مزخرفه يبلغ طول اكبرها ثلاثة أمتار تصور المنحوتات رؤوس المها ووعولاً رابضة ونقشا نذرياً وتوجد وسط الساحة الامامية بئر يعود تاريخها الى القرن الخامس ق.م قدمت كهدية لالهه القمر "المقه" كما يشير لذلك نقش منحوت علية يذكر اسم البئر" نبطم" التي يزيد عمقها على 18 متراً وهي مطوية بحجارة كلسية.
هذا وتعد أعمده البوابة الخارجية الستة والمنكسر أحدها اعلى أعمده من اليمن القديم تم العثور عليها اذ يبلغ ارتفاعها (8.2) أمتار وأقيمت على مصطبتين متدرجتين.
وتجسد الأعمدة بتيجانها المزخرفة والتي تميل قليلا باتجاه المعبد صوره من صور فن العمارة اليمنية قبل الاسلام وتحت كل عمود منها كتله صخرية واحدة.
ويبلغ وزنه حوالي ثلاثة أطنان. ولثقل الاعمدة ظلت صامدة في وجه اعنف الهزات والزلازل وكان دخول المعبد مقتصرا على رموز الطبقة العليا في مجتمع البلاط السبأي، في حين كان العامة يضعون قرابينهم على امتداد الساحة الامامية للمعبد.
وقد تقلصت أهمية المعبد منذ نحو الفى عام كما تعرض الى جانب الاهمال لعمليات نهب وتدمير.

الحملة الرومانية وهدم المعبد
يعتقد الباحثون الاثريون أن الحملة الرومانية الشهيرة بقياده "اليوسجالوس" العام 25 ق.م كانت السبب وراء هدم معبد بران وتخريب المنشآت المائية في المدينة كسد مأرب وذلك انتقاماً لفشلها الذريع في الاستيلاء على مدينة مأرب وفتحها.
ولم تتمكن الاصلاحات التي جرت بعد قرابة جيل من الخراب في اعاده المعبد الى حالته الاولى التي كان عليها. وقد ظهرت محاولات لتغيير طقوس المعبد باضفاء اسم جديد على "المقه" الذي صار يدعى "بعل مسكه وبران". لكن اهمية المعبد تعززت اثر السماح لعامه الناس بارتياد محرابه إذ تتحدث نقوش سبأية يعود تاريخها الى الفترة ما بين القرنين الاول والثالث الميلاديين عن نذور يقدمها أحد السكان حمداً على نجاه معبوده المقه من خلاف نشب بينه وبين رجل من خولان في المعبد.
وعثر خبراء الاثار على نقوش مكسورة تذكر ملوك سبأ وذى ريدان في منتصف القرن الثالث للميلاد. كما عثروا كذلك على خمسين " تنور" من الطين تصطف على امتداد الواجهة الداخلية للسور الطيني يعتقد أنها تمثل ما بقى من مطبخ المعبد وأنها تشير الى استمرار أداء بعض الطقوس السبأية الدينية لفترة قصيرة في القرن الرابع الميلاد.