معركة الموازنة الاتحادية

الدرس في الصراع مع السلطة والبرلمان في بغداد يكمن في أن المشاكل الكردية الكردية يمكن حلها تحت خيمة كردستان لا خارجها.

لخصت مجريات جلسات البرلمان الخاصة بالموازنة كل ما يعانيه العراق من مشاكل ومفارقات سواء على صعيد العلاقة بين المكونات او داخل المكون الواحد، ومن بين هذه المشاكل ما يتعلق بالعلاقة مع اقليم كردستان.

لقد تعودت اربيل بعد كل انتخابات ان تتحول الى قبلة للاطراف السياسية الشيعية والسنية، يلجئون اليها فرادى وزرافات لضمها الى تشكيل حكوماتهم المتعاقبة. وعادة ما يقومون بتقديم شيك على بياض لكل مطاليبها مقابل دخولها معهم في تشكيل الحكومة، وبعد ان تتشكل تتنصل هذه الاطراف من تعهداتها للطرف الكردي وتخضع اتفاقاتها السياسية معها الى السلطات التشريعية والتنفيذية، لتبدا ادواتها في البرلمان بافراغ تلك الاتفاقيات من محتواها وجعلها حبرا على ورق فقط... هذا باختصار سيناريو ما يحصل عند تشكيل كل حكومة.

وقد يتسائل الكثيرون ما الذي يدفع بالطرف الكردي الى ان يلدغ من جحر عدة مرات، رغم علمه بعدم مصداقية الاطراف الشيعية في كل تعهداتها؟

وللرد على هذا السؤال علينا مراجعة تاريخ ومفاصل الثورة الكردية منذ تأسيس العراق بشكله الحالي ولغاية يومنا هذا. فالثورة الكردية التي كانت تقاتل الحكومات المتعاقبة في بغداد كانت تستغل اية فرصة للتفاوض مع نفس الحكومات التي كانت تقاتلها، رغم معرفتها بعدم جدية تلك الحكومات، لكن وبما ان للثورة الكردية اهدافا معينة تريد الوصول اليها، فكان من الواجب عليها استغلال كل السبل لتحقيق تلك الاهداف، انطلاقا من فكرة ان الوصول الى الاهداف بحلول سلمية افضل من الوصول اليها بحلول عسكرية. ومثلما ان القتال كان مع الحكومات العراقية فان التفاوض ايضا يكون معها.

اما بعد 2003 واعتماد العملية السياسية على مبداي المكونات والانتخابات، وبما ان الاغلبية السياسية في العراق هي للمكون الشيعي، فان المنطق يقول بان هذا المكون هو من يحكم بغداد. وبما ان كردستان تمثل اقليما له مؤسساته التنفيذية والتشريعية، فالطرف الكردي مضطر للتعامل مع من يحكم بغداد لديمومة التواصل بين مؤسساته وتلك الموجودة في بغداد، وعدم مشاركته في الحكومات المشكلة في بغداد تؤثر سلبا على هذا التواصل وبالتالي تؤثر سلبا على اداء حكومات الاقليم المتعاقبة نفسها. لذلك فان من تفرزه الانتخابات في العراق سيتعامل معه الاقليم حتى وان كان "الشيطان"، خاصة وان الوقائع خلال قرن من الزمن اثبتت انه لا فرق بين القومي والعسكري واليساري والاسلامي الذي يحكم بغداد في تعامله مع الموضوع الكردي سابقا او حاليا، وبالطبع لا نستطيع خلق من يكون له مواصفات تتلائم مع ما نطمح اليه.

من المعروف ان قرار محكمة باريس ورضوخ تركيا له بايقاف تصدير نفط كردستان كان له اثر كبير على تحديد خيارات الاقليم وزيادة الضغوطات السياسية عليه، رغم ذلك فقد تعامل الاقليم متمثلا بالحزب الديمقراطي الكردستاني بواقعية سياسية مع هذا الوضع، محاولا انقاذ ما يمكن انقاذه والخروج باقل الخسائر من هذا الوضع، واثبت سير مجريات اقرار الموازنة رقي مستوى الاداء السياسي للديمقراطي الكردستاني وتواضع الاداء السياسي للاطراف الشيعية والكردية المعارضة له.

فقد بذل الديمقراطي الكردستاني جهودا مضنية في الحفاظ على مكتسبات الاقليم وحقوق الشعب الكردي، ومن اجل ذلك حارب بشراسة على جبهتين.

الجبهة الأولى، كانت مع اطراف شيعية ذات امتدادات مليشاوية لها توجهات وميول معروفة، حاولت اضعاف كيان اقليم كردستان، بكسب اطراف كردية "معارضة"، عملوا على وضع الغام سياسية كثيرة في بنود الموازنة.

حركت الاطراف الشيعية انفة الذكر بيادقها ممن يسمون بالمستقلين، للتنصل من اتفاقاتهم مع الديمقراطي الكردستاني، ووضعها تحت مقص "دكتاتورية الاغلبية" في لجان البرلمان، رغم ذلك فشلوا في تنفيذ كل ما طمحوا اليه، وما التخريجات القانونية التي غنموها في بعض الفقرات الا تحصيل حاصل لقرار محكمة باريس وتداعياتها وليس لكفاءة اداء تلك البيادق.

المفارقة ان "ابطال" البرلمان ركزوا فقط على الفقرات المتعلقة بالاقليم وكأنها معركتهم الوحيدة، غافلين عن نقاط مهمه اخرى تتعلق بالعراق بشكل عام، فمررت واقرت دون ان يلاحظها احد، ومن ثم بدا البعض بالاشارة اليها وانتقادها.

الجبهة الثانية، كانت مع الاطراف الكردية التي تريد ان تجد لها موقعا تحت الشمس بعد ان افل نجمها السياسي، فحاولت التحالف مع القوى المليشياوية في البرلمان لتنسيق خطواتها، والاستفراد بمحافظة كردستانية من خلال التحكم بها اقتصاديا عبر بنود الموازنة، متناسية ان مدن كردستان ليست حكرا على حزب. فحاولوا الاستعانة بفرية المخصصات المالية للمدن الكردستانية ورواتب موظفي مدن اقليم كردستان، رغم ان النقطتين تتناقضان مع الدستور العراقي بشكل واضح.

تناسى هؤلاء ان مشكلة حصص محافظات الاقليم او رواتب موظفيها لا يكون حلها بان تندفع اطراف سياسية كردستانية لتفتيت كردستان وتضحي بمكتسبات اقليم كردستان لا لشيء سوى لمصالح حزبية ضيقة. رغم ذلك نجح الديمقراطي الكردستاني بالتصدي لهذه المحاولات وافشال مخطط الاضرار بوحدة كردستان.

وهنا اريد الاشارة الى الغصة التي يحس بها اي كردي عندما يضع طرف كردي نفسه في معسكر خصوم كردستان وتحت رحمتهم. لكن هذا ما حصل للأسف، واتضح ان بعض الاطراف الكردية اكثر انفلاتا من زملائهم المنفلتين خارج كردستان، بهدف الاضرار بالحزب الديمقراطي الكردستاني كهدف مشترك لكليهما، دون ان ينتبهوا ان ما يقومون به هو ليس معاداة للديمقراطي الكردستاني وانما هو معاداة لاقليم كردستان وللكرد بشكل عام، فكيف بطرف يعتبر نفسه طرفا كرديا ان يجعل الاقليم بين خيارين اما الانصياع الى رغباته الحزبية او ضرب الاقليم في مقتل والذهاب الى حضن الدولة الاتحادية والاضرار بوحدة اقليم كردستان.

يجب على هؤلاء ومن تحالفوا معهم ان يدركوا ان مدن كردستان ليست ورثا لحزب معين كي يتصرف في مصيرها حسب مصالحه الحزبية، وهي ليست ساحة صراع نفوذ لهذا الحزب او ذاك، ومواطنو كردستان ليسوا عبيدا عند هذا الحزب او ذاك ليتحكم في مصير انتمائهم القومي، فالمشاكل الكردية الكردية يمكن حلها تحت خيمة كردستان لا خارجها.

 انتهت الان "معركة" الموازنة بسلبياتها وايجابياتها، بخساراتها ومغانمها، وعلينا القبول بها على مضض مثلما هي باعتبارها من افرازات اللعبة السياسية. والمطلوب من الاقليم الان ترتيب اوراقه السياسية والاقتصادية على ضوء نتائجه، والمضي في طريق بناء كردستان بالوسائل المتاحة، وهي كثيرة، واضعين نصب اعيننا ابعاد كردستان عن الصراعات السياسية الداخلية والاقليمية والعالمية، فالاستقرار السياسي هو السبيل الوحيد للبناء والاعمار.