مفتاح النجاح لماكرون في الصين

جاء الرئيس الفرنسي إلى الصين في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا كلّ الهواجس التي هيمنت ابان الحرب العالميّة الثانية.

أي موقع لفرنسا في هذا العالم المليء بالتعقيدات؟ ذهب الرئيس ايمانويل ماكرون إلى الصين كي يؤكّد أنّ في استطاعة بلده لعب دور في التأثير على الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي زار موسكو أخيرا والتقى بالرئيس فلاديمير بوتين الباحث عن دعم في حربه على أوكرانيا.

تريد الصين، إضافة إلى استغلال الوضع الصعب الذي تعاني منه روسيا، لعب دور الوسيط في أوكرانيا. أمّا في ما يتعلّق بالوضع الصعب لروسيا نفسها، كانت زيارة شي مناسبة كي تشتري الصين النفط والغاز الروسيين ومواد أوليّة في حاجة إليها بحسومات كبيرة.

ليس معروفا بعد هل حظ ماكرون مع شي جينبينغ سيكون افضل من حظّه مع فلاديمير بوتين الذي ارتكب سلسلة من الأخطاء القاتلة اوصلته إلى شن حرب على أوكرانيا وشعبها. كان الرئيس الفرنسي بين أوائل الذين زاروا الكرملين مباشرة بعد بدء الحملة العسكريّة الروسيّة في 24 شباط – فبراير 2022. لم ينجح في اقناع بوتين بالتراجع. على العكس من ذلك، أظهر الرئيس الروسي عنجهية ليس بعدها عنجهية مع ماكرون. اجلسه عند طرف طاولة كبيرة على بعد ما يزيد على عشرة امتار منه. سيتوجب على الرئيس الفرنسي خلال وجوده في الصين اقناع رئيسها بعدم تسليح روسيا كي تستمرّ في حرب لا طائل منها، خصوصا بعد تحولها إلى حرب أوروبيّة – روسيّة.

سيكون مفتاح نجاح الرئيس الفرنسي امتناع الصين عن تزويد روسيا أسلحة. يستطيع ماكرون القول لتشي جينبينغ أنّ بوتين نسي، في ما يبدو، انّه في القرن الواحد والعشرين وأنّ ليس في استطاعته ان يكون ستالين آخر. لا يستطيع حتّى ان يكون ليونيد بريجنيف آخر، بريجنيف الذي قضى بالدبابات على "ربيع براغ" في العام 1968. تعامل بريجنيف في بداية ثمانينات القرن الماضي، عن طريق انقلاب عسكري داخلي نفّذه الجنرال البولندي ياروزلسكي مع محاولات شعب بولندا للخروج من تحت نير الاحتلال السوفياتي. ارادت بولندا، وقتذاك، التخلّص من تحولها ضحيّة من مخلفات الحرب العالميّة الثانية التي قسمت أوروبا بين الغرب من جهة والنفوذ السوفياتي من جهة اخرى.

يستطيع الرئيس الفرنسي، أيضا، أن يقول لشي جينبينغ أنّ فلاديمير بوتين ايقظ أوروبا على كوابيس كانت تظنّ انّها صارت من الماضي، بل دفنت في مكان عميق لا تستطيع الخروج منه. يتجاوز ما فعله الرئيس الروسي كلّ منطق ويتجاوز خصوصا كلّ ما له علاقة بالقيم الحضاريّة والقانون في عالم الذي يبدو واضحا انّه لم يدرك خطورة السلوك الروسي الّا بعد بلوغه اوروبا.

أكثر من ذلك، ليس تصرّف فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا سوى تعبير صادق عن هذا الانفلات الذي لا علاقة له من قريب او بعيد بالقانون الدولي واحترام سيادة الدول وميثاق حقوق الانسان. هل الصين مستعدة للسير في هذا الخط التصعيدي الذي جعل كلّ دولة اوروبيّة تشعر بانّها مهددة في الصميم. ماذا تستطيع دول البلطيق (ليتوانيا واستونيا ولاتفيا) الضعيفة عسكريا والتي كانت جمهوريات سوفياتية عمله في حال نجح فلاديمير بوتين في أوكرانيا؟

هذا الخوف الاوروبي يفسّر الموقف الألماني الذي فاجأ الرئيس الروسي، خصوصا بعدما قررت المانيا ارسال مساعدات عسكريّة الى الجيش الاوكراني وتخصيص مئة مليار يورو لاعادة بناء جيشها وتطويره. ليس الموقف الالماني الوحيد الذي يفترض التوقف عنده. خرجت سويسرا عن حيادها وقررت المشاركة في فرض عقوبات ذات طابع مصرفي على اتباع بوتين. من كان يتصوّر يوما ان سويسرا يمكن ان تتغيّر؟ من يتصوّر في الوقت الحاضر أنّ بولندا سترسل إلى أوكرانيا كلّ ما لديها من طائرات "ميغ – 29"؟ هذا وعد أعطاه الرئيس البولندي للرئيس الأوكراني للرئيس فولوديمير زيلنسكي الذي زار وارسو في الوقت الذي بدأ ماكرون زيارته للصين؟

جاء الرئيس الفرنسي إلى الصين في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا كلّ الهواجس التي هيمنت ابان الحرب العالميّة الثانية والسنوات التي سبقتها والتي شهدت صعود نجم رجل مريض اسمه ادولف هتلر. هل تمتلك الصين قليل القليل من العاطفة الإنسانيّة كي تستوعب أنّ ايّ اوروبي يستمع الى فلاديمير بوتين يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها عن أوكرانيا وعن امجاد الاتحاد السوفياتي يضع يده على قلبه.

ردّد ماكرون لدى استقباله افراد الجالية الفرنسيّة في بيجين قبل لقاء الرئيس الصيني ما صدر عن جنس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي عن انّ تسليح الصين لروسيا سيكون "خطأ تاريخيا"، لكن هل ماكرون الشخص المناسب لإقناع الرئيس الصيني باعتماد لغة المنطق في تعاطيه مع روسيا؟

الثابت من تجارب السنوات القليلة الماضية أنّ الدور الفرنسي تراجع كثيرا على غير صعيد، بما في ذلك أوروبا نفسها ومناطق أخرى من العالم. يكفي للتأكّد من ذلك وضع فرنسا في لبنان حيث فقدت الكثير من مكانتها، خصوصا بعد تبنيها ترشيح سليمان فرنجيّة لرئاسة الجمهوريّة. يكفي أيضا القاء نظرة إلى كل تلك المبادرات التي قام بها ماكرون منذ تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس 2020. لم تنفذ كلمة مما وعد به الرئيس الفرنسي في لبنان.

لا شكّ أنه سيكفي الصين، قبل أن تستمع إلى نصائح ماكرون، إلقاء نظرة إلى ما آلت إليه السياسة الفرنسيّة في افريقيا. لم يعد مرحبا بفرنسا في دول كانت إلى ما قبل فترة قصيرة تدور في فلكها، دول مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر. فوق ذلك كلّْه، عمل ماكرون كلّ ما يمكن عمله لإستعداء المغرب، لا لشيء سوى بسبب النجاحات التي حقّقها الملك محمّد السادس في تكريس الوحدة الترابيّة للمملكة وتكريس دورها الإفريقي.

لن تكفي النيات الطبيبة كي يلقى ماكرون آذانا صاغية في الصين، التي لديها حسابات خاصة نريد تصفيتها مع اميركا. سيحتاج الرئيس الفرنسي، من أجل ان ينجح، إلى اثبات أنّ لفرنسا دورا في العالم وأنّ سياستها الخارجية قادرة على تحقيق نجاح ما في أي مكان على الكرة الأرضيّة.