مقبرة الصحافي العراقي


عندما يدير الصحافي ظهره للأفكار النيرة والمبتكرة والدافعة نحو رقي المجتمع، من أجل أنانية طائفية أو شخصية ضيّقة، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه، فإنه سيجعل من هذا الفضاء الإعلامي الحر، مقبرة لنفسه.

سأعترف لك بالحقيقة كما هي، فقط لأنك صديقي! وأشعر بالغبطة من أجلك أيضا لأنك منذ أكثر من ربع قرن خارج هذا الجحيم الذي بقينا نتمسك به، كان هذا مستهل كلام صديقي الصحافي الذي لم أره منذ ربع قرن ويتبوأ اليوم موقعا إعلاميا رفيعا داخل الحكومة العراقية وهو يعلق على مقالي المنشور على هذه الصفحة قبل أسبوعين “مازال صحافيو العراق يستحقون التعاطف!”.

استمر في الكلام وهو يقول “لا أعرف إن كان من سوء أو من حسن حظي أنني في هذا الموقع. لكنني لا يمكن أن أخفي سعادتي به فهو قد منحني خلال سنوات ما لم أستطع الحصول عليه منذ أول خبر كتبته في الصحافة العراقية قبل أكثر من أربعين عاما. قد أكون أنانيا وأنا أقبل به، لكنه في كل الأحوال يجعلني قريبا من المشهد في البلاد، وعليّ أن أقدم صورة ناصعة لهذا المشهد بطريقة أو بأخرى”.

قال أيضا “تهكمك علينا فيه نوع من الاستعلاء لأنك في لندن ونحن في بغداد، لا يمنعنا أيضا من اتهامك بالغرور! مثلما لا يخفي حسدنا لأنك حصلت على ما لم نحصل عليه، ربما كان ذلك بجهدك وكفاءتك، لكن في كل الأحوال الصحافي في بغداد غير الصحافي في لندن وإن كان الاثنان عراقيين”.

وشدد من ملامته لي على مقالي الذي وصفه بالساخر والمتعالي من زملاء وأصدقاء، قال “أنت نفسك اعترفت في نهايته بأنك لا تعرف الإجابة لو كنت بيننا”، مشددا بقوله “تعاطفك معنا مزيف يا صديقي القديم!

مازلت أستمع إلى زميلي الصحافي الذي لم يتخلص من نبرة التعالي لأنه يجلس في موقع مهم في المنطقة الخضراء ويعد مصدرا إخباريا لعشرات الصحافيين والمراسلين العرب والأجانب.

مهما يكن من أمر، قال لي صاحبي: المشهد الذي تركته في العراق إبان النظام السابق عن صحافة الوجه الواحد الذي تديره الدولة والخطوط الحمر والمخاوف والمراقبة على كل كلمة نكتبها، مازال قائما لكن بطريقة أخرى.

نعم لا توجد لدينا صحافة في العراق، لأنه لا توجد دولة ولا توجد مؤسسات، الصحف الحزبية هي نسخة طبق الأصل من صحيفة الثورة إبان النظام السابق، والصحافيون اليوم في غالبيتهم جيل من الأميين والانتهازيين، قال لي مازحا “يمكن لك أن تعتبرني واحدا منهم!”.

حتى الذين يمكن أن تعول عليهم من أبناء جيلك سقطوا في هوة الأحزاب والمسؤولين الفاسدين، وصاروا ناطقين باسم الفساد باعتباره نوعا من الحرية والديمقراطية وانتهاز الفرص في العراق الجديد.

قال لي “أنت تعرف أحدهم وكان لاجئا في لندن، وهو طارئ على الصحافة لكنه تقلد منصب رئيس تحرير بعد عام 2003 ومازال مستمرا في الموقع، هذا رئيس التحرير يمكن أن يكون في أفضل الأحوال بائع لبلبي أو خردوات أو خادما في حسينية، إلا أنه رئيس تحرير في العراق اليوم شئت أم أبيت! ورئاسة الوزراء عينته وتتعامل معه وفق هذه التسمية”.

أكد لي صاحبي أن موقعه الوظيفي سهّل عليه شراء الصحافيين لأن شراء المواقف علنا مهمة شائعة بعد موجة التخويف التي كانت سائدة ومازالت مستمرة بطريقة أو بأخرى. مهمة الصحافيين في العراق اليوم هي أن يتزلفوا ويتملقوا، وإلا… لا يمكن لهم أن يعيشوا.

هذا الواقع اليوم في الصحافة العراقية، فأي بطر يفكر بعد ذلك بمقالك المثالي الأفلاطوني، عندما تطالب الصحافيين العراقيين بألا يصابوا بالعجز عن ربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات. قال: ما أحصل عليه من مزايا في عملي الحالي فوق مستوى مطالبتك للصحافيين، وتلك هي حياتنا اليوم في العراق التي لا تعرفها يا كرم! بعد ربع قرن من تركك البلاد.

استمر صديقي القديم في كيل الاتهامات لي معولا على الود الذي كان يربطنا على مدار سنوات مريرة عشناها معا في العمل الصحافي، قائلا “كل ما اتهمت به الصحافيين العراقيين يمكن أن نتهمك به وأنت تعمل في صحيفة عربية حرة ومستقلة في لندن، أنت مثلنا تفتقد للشجاعة، ولو كنت شجاعا لعدت إلى بلدك، لقد هربت منه ولم تعد إليه، فلماذا تطالبنا بأن نكون مثاليين في زمن عراقي لا يمت بصلة للمثالية؟”.

كان صديقي القديم يتحدث بألم مستغلا الود القديم الذي بيننا ومختصرا المشهد المترهل في البلاد الماضية إلى الهاوية من دون أمل، وطالبني بأن أدافع عن التجربة الجديدة في العراق مهما شابتها الأخطاء، وعليّ أن أمثّل صوتي العراقي الداخلي، قائلا “مهما دارت بك البلدان تبقى عراقيا”.

وقال أيضا: لا تعتقد أن وابل الرصاص الذي يطلق علينا اليوم سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر حمم الفضائيات يمكن أن يؤثر على ما يجري، دعني “أطمئنك” بأن أي محطة تلفزيونية تنتقد الحكومة والأحزاب الحاكمة وتزعم أنها ضد الفساد، لا تقوم إلا بعرض بضاعتها للبيع على الحكومة العراقية، كل هذا النقد الزائف مجرد عرض خدمات صحافية مدفوعة الأجر، وقد فهمت الحكومة الرسالة التلفزيونية التي مفادها “نقوم بمهاجمتكم كي تقوموا بعد ذلك بالإعلان لدينا لكي نبيض صفحتكم”.

أنهى صديقي كلامه بالقول “أرجو ألا تعتقد أنني أتصل بك في عرض للبيع أو الشراء، فكل ما تكتبه الصحف خارج العراق لا أهمية له بالنسبة إلينا، ولا يملك تأثيره علينا، أتصل بك لأنك صديقي القديم أولا، وأشفق على مثاليتك الصحافية وعلى ما كتبته في مقال ‘مازال صحافيو العراق يستحقون التعاطف’ وأنت بعيد عن الجلجلة”.

لم يقل هذا الصحافي العراقي الجالس في المنطقة الخضراء غير الحقيقة التي تكتفي بكونها حقيقة عراقية صرفة وبامتياز، ولا تحتاج غير العودة للمرة المئة إلى كلام آلن روسبيردغر رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، “عندما يدير الصحافي ظهره للأفكار النيرة والمبتكرة والدافعة نحو رقي المجتمع، من أجل أنانية طائفية أو شخصية ضيّقة، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه، فإنه سيجعل من هذا الفضاء الإعلامي الحر، مقبرة لنفسه لا يزوره فيها إلا الموتى على شاكلته”.