مَنْ الراوي في رواية 'أنا مي زيادة'؟
سؤال لا بد من أن يطرحه كل من يتصدى لقراءة هذه الرواية اللافتة للكاتب المهندس علي حسن: مَن الراوي في رواية "أنا مي زيادة"؟
والواقع أنه "مي زيادة" نفسها.. أو "مريم" التي تماهت مع "ميْ" حتى صارتا روحًا واحدة في جسدين؛ الأولى ماتت فيزيقيا في عام 1941، والثانية تعيش وتتنفس روح "مي" وأدبها وشعرها وسلوكها وعذابها ومواجهتها للتحدي ومقاومتها حتى انتزعت ما كان مخبوءًا في داخلها من قوة تحدت بها ضعفها وقاومت ونجحت وانتصرت على الطامعين في إرثها وكيانها.. بل وأنوثتها.
والفارق الكبير بينهما أن "مي زيادة" كانت بنت عصرها في أحلامها وطموحها ونجاحاتها.. وأيضًا في طمع الطامعين في ثروتها حتى دار بها الزمن وذهب أبوها إلى الدار الآخرة، ولم يعد لها وريث من زوج أو أبناء، فصار الأبعدون أقرباء، وحام حولها الطامعون وتكاثروا عليها لا تأخذهم بها رحمة أو شفقة، فلذة الصيد أشهى من دموع الفريسة. وكانت بنت عصرها في انفتاحها على مجتمعها الأدبي والفكري بعد أن صارت بكتاباتها ومواهبها العبقرية قبلة يؤمها كبار رجالات عصرها ويحتشدون فى ندوتها الأسبوعية التى شهدت نجاحها وبريق شهرتها. وكانت بنت عصرها فى مظهرها وهيأتها. أما مريم التى تماهت مع "مى زيادة" في عقلها وموهبتها وثقافتها وقدرتها الإبداعية فكانت الصورة المستنسخة من الأصل صورة بدت غريبة عن عصرها الذى تعيش فيه.. صورة تثير سخرية من يراها كأنها خارجة من جب عصر سحيق أو من غيابة التاريخ.. هذا الفستان غير مناسب لفتاة في القرن الحادي والعشرين.. هذا الفستان الجديد قديم الموديل.. كل تصرفاتك يا بنتي تنبئ عن جنون .. أنا مش ممكن أسيبك يا بنتي تضيعي نفسك.. كل تصرفاتك يا بنتي جنون في جنون.
لم يكن هذا رأي زوجة عمها "صفية" وحدها.. ولكنه – أيضًا – ما رآه زملاؤها في الجامعة.. وما رآه عمها الطيب الأستاذ الجامعي.. وإن اختلف في التعبير عن رفضه. صورة أقرب إلى حنان طبيعي يحاول أن يفهم ويتفهم ما تراه "مريم"، بينما كانت زوجة العم ترفض مظهرها الشاذ بعين المرأة التي يهمها أن تكون ابنتها على صورة يقبلها الرجال.. لأنها في النهاية.. ومهما حققت من نجاح وبريق في حياتها الفكرية والإبداعية.. يجب ألا تغفل عن كونها امرأة أو فتاة مصيرها لرجل. وهذا تفكير المرأة التي لم تنجب واتخذت منها ابنة وأحبتها وأفاضت عليها من مشاعر الأم ما كانت "مريم" بحاجة إليه عند التحاقها ببيت عمها.. وقبلت مريم في البداية حسن استقبالها وقابلت حبها بحب.. ولكنها وقفت متصلبة عندما أحست أن المرأة تمس الثوابت في شخصية "مريم".. الثوابت التي من أهمها أنها لا تحلم بالرجل بعد أن شوهها خالها.. وأنها ترى في نجاحها وغرابة مظهرها حاجبًا يحجز المسافة بينها وبين من يطمع في النيل من وجودها. ولتجعل ما بينها وبين زوجة عمها جدارًا عازلًا كالت لها الاتهامات ما أدى إلى تبادل سفاسف الإهانات حتى فوجئت بكف يد صفية يهوي عليها:
- البيت بيتي يا مريم.. أنت ضيفة ثقيلة.. فتحت لك قلبي وبيتي. حبيتك زي بنتي.. أنت إنسانة مريضة.
- أنا لست ابنتك. وأنت المريضة. إنسانة حاقدة. تغار من فتاة أصغر منها سنا لكنها أكثر أدبا وعزا ونبوغا.
هكذا جاءت الصفعات.. بعد مشادة نسائية لمجرد اختلاف الرؤية.
هل نجح العالم الذهني الذي اختارته مريم بإرادتها بديلا عن العالم الواقعى الحقيقي المؤلم بظلمه وانحطاطه وضعف أخلاق ناسه وطمع الطامعين فيما تصل إليه أيديهم حقا أو باطلا.. وقد يكون الباطل عندهم ألذ والحرام حلاوته أحلى من الحلال.
أرادت أن تختبئ في عالمها الذهني بالخروج من بيت العائلة إلى بيت عمها للتعلم فى الجامعة.. الخروج الذي ساعدتها الظروف عليه بالرغم من معارضة أصحاب المصلحة من الأقارب إلا أن تعتق رقبتها بزواج أحدهم أو التنازل عن أرضها بقدر من المال أو تؤجر أرضها لأحدهم تسعين سنة حتى يتصرف فيها كما يشاء.. كل الحيل لم تجدهم لأن عمها الطيب رجح كفة ميزانها وقالها حاسمة "مريم سوف تعيش معي في القاهرة". هكذا تبددت أحلام الطامعين في زواج أو استيلاء على أرضها أو تحايل بالإيجار أو البيع.. وهكذا صارت أسماء.. كامل وعسران" ومن على شاكلتهما من الطامعين.. قطعة من الماضي أهالت عليها كثيرا من التراب، وصارت ابنة المدينة في أبراج أغا خان المطلة على النيل وصار لها غرفتها الخاصة وكتبها ومكتبة عمها.. وبدأت تستعيض ما فقدته بما وجدته من زوجة عمها. أولتني سارة زوجة عمي التي تكبرني بخمس عشر سنة قدرًا كبيرًا من الاهتمام. شعرت أنها تمنحني عطف أم فقدت الأمل في أن يصبح لها ابنة في هذا العالم. ولهذا فتحت لي باب الأمومة على مصراعيه. ولجته فوجدت عالما من الرعاية والاهتمام.
ولكن هذا العالم الذهني لم يكن بديلا عن عالم الواقع لأنها اصطدمت في عالم الواقع بمن لا يفهمون ولا يقدرون ولا يقبلون إلا ما اعتادوا عليه وألفوه. كانت في نظرهم غريبة.. بل مستفزة بغرابة مظهرها وسلوكها بالرغم من أنها حققت نجاحا أدبيا سريعا بعد أن طبع لها ناشرها مجموعاتها القصصية ونالت استحباب القراء واستحسانهم، وكثرت على مؤلفاتها المشتريات فطلب الناشر مقابلتها ليمضي معها عقد احتكار لخمس سنوات مقابل قدر من المال. ولأنها كانت تثق في عمها وجدته مشجعًا بل ووجدت "مَىْ زيادة" خلفها. "وافقت بقوة وأنا أشم رائحة مى زيادة" تنبعث من خلفي. كانت واقفة تتابع الأمر وهي تضع كفيها على كتفي". بل إن نجاحها حقق لها الفوز بجائزة أكبر مسابقة عربية في مجال القصة القصيرة عام 2010.. الجائزة الأولى.. ما دعا ناشرها الأستاذ "ربيع" أن يشجعها على كتابة الرواية كخطوة أبعد في عالم إبداعها من الأدب.
لماذا تماهت شخصية "مريم" مع "مى زيادة" فى رواية حياة "مى زيادة"؟ هذا سؤال للكاتب الذى لا شك له رؤيته الخاصة مع الشخصيتين بالرغم من اختلاف عصريهما" "فمَىْ زيادة" بنت القرن التاسع عشر التى عاشت القرن العشرين وماتت بعد قرابة نصفه. ومريم بنت القرن العشرين التى عاشت فى القرن الحادي والعشرين ومرت بأخطر منعطفاته. "مى زيادة" فلسطينية من "الناصرة" تعلمت بمدرسة الراهبات اليوسيفيات بالناصرة وحصلت على شهادة الابتدائية وتفتحت لطلب المعرفة بالقراءة والكتابة وشجعها أبوها على المعرفة وعمها على رؤية العالم فى الشام.. كم كانت دمشق جميلة وساحرة. ثم إلى حيفا وبيروت وجبل الكرمل وشحتول.. إلى القاهرة. أما مريم فمصرية من عائلة صعيدية لا تعرف من الحقوق إلا حقوق الرجال وبأسهم وبطشهم، أما النساء فيتظللن بظلهم ويعشن تحت جناحهم قانعات راضيات حبا أو كرها. وكذا كانت "مَىْ" وجدت من يفهم ويقدر حقها فى التعليم، فمريم لم تجد من يفهم أو يقدر أى حق لها.. لا تعليم ولا غيره وإنما هى امرأة بلا قيمة ولا دور حتى يقرر سيدها الدور الذى ينبغى لها السير فيه زوجة أو عبدة لغرائزه.. لا فرق ولا حرمة ولا حرام! أباح لها الحظ الحسن النادر الحدوث لها أن تنجو من مهالك الاحتواء بالزواج أو التنازل عما تملك أو تأجير ما تملك بموت أحد الطامعين فيها وسيطرة عمها على انتزاعها بلا تنازل منها عن أي حق من حقوقها لتعيش وتتعلم وتري ذاتها فى بيته بالقاهرة على ضفاف النيل فى أحد أبراج أغا خان حيث يسكن عمها الأستاذ الجامعي المثقف الحنون. هاتان هما المرأتان اللتان ولدت إحداهما فى القرن التاسع عشر وولدت الثانية فى القرن العشرين. فلماذا تماهت الأحدث مع الأقدم؟ أغلب الظن أن تلك رؤية المؤلف وهى رؤية لها ما يبررها من وجهة نظره.. إذا اتكأنا على أول صفحة فى سرديته وعنوانها "مستشفى المعادى" الثلاثاء 25 يناير/حزيران 2011، فهي إشارة غير اعتباطية.. فخمسة وعشرين يناير/حزيران 2011 كانت بداية فارقة بين عصرين.. عصر انتهى ويحتاج إلى هزة ليقع، وعصر يولد ويحتاج إلى هزة تساعده على الخروج إلى الوجود. أي عصر الثورة على الظلم والانحلال والانحدار الذى سارت فيه الأمة.. وكانت مأساة مريم الشخصية والعائلية، وامتهانها كأنثى وهى بعد صغيرة إهانة لوجودها وتحطيم لكبريائها وتحميلها مأساتها بلا ذب جنته إلا أن الخال الذى من واجبه حمايتها هو من استهلكها. أما "مَىْ" فعاشت بدورها وحققت من النجاح وبريق المعرفة وأضواء الشهرة وما قدمته للثقافة من أعمال ومشاركات ووجود.. تنتهي وحيدة فى مجتمع متوحش لا يري فيها إلا مكسبا يريدون الحصول عليه سواء بإدعاء الحب والحنان.. أو باستمالة مشاعر القربى أو بالتهديد أو بالقسوة والعنف حتى أنها بدت أمامهم فريسة يجب ذبحها قبل التهامها.. والغريب أن المرأة المسكينة الضعيفة التى لا تقدر على مواجهة أذرع الرجال وفتوتهم ويأخذون منها قسراً كل ما يمكنهم منها من توقيعات وبصمات وأختام على أوراق معدة سلفا منتهكة حقوقها وتسلمها لهم.. إذا بها تخرج من خور ضعفها امرأة أخرى صامدة ثم مواجهة ثم ضاربة ثم منتصرة وتهزم أعداءها ولا يقدر أحد أن يأخذ منها عنوة ما لا تريد التفريط فيه.
قد تكون هذه العلاقة الذاتية بين مريم ومَىْ من ناحية وبين شعب ظن الكثيرون أنه غط فى سُبات عميق، فإذا به يهب من غفلته ويستعيد إرادته ويواجه مغتصبيه بإرادة لم يفكر أو يتخيل أحد أنها كامنة فيه يستعيد أمره ويقف خارجا من كبوته. إنه الثورة للحياة أو التمرد على الخوف والظلم.
كأنه أراد أن يقول إن البشر لم يتعلموا من تجارب الماضي ولم يرتقوا بما سيسهم بهم إلى مرتبة إنسانية رفيعة، وإنما هم ذئاب تتوق إلى فرائس تفترسها إن فى القرن التاسع عشر أو العشرين أو الحادي والعشرين. وإن كانوا من الأهل أو من الطامعين أيا من يكونوا من البشر.. فكأن المأساة سواء كانت ذاتية أو جمعية تردد معنى واحدا.. الظلم موجود وقائم.. والطمع موجود وقائم، وابتزاز ما ليس حقا موجود وقائم سواء كان ابتزاز فرد أو مجتمع، وربما يتصاعد المعنى ليصل إلى ابتزاز الأوطان ونفي الحقوق من أصحابها وإعطاء ما لا يستحقون العطاء بمنطق القوة والبأس. يمكن أن تتصاعد رؤيتنا من الذاتي الشخصي عند مريم المتماهية مع "مَىْ زيادة" إلى كل الغاصبين لا لسبب إلا أن الحق مع ضعفاء يسهل قمعهم أو إلهاؤهم بالأمنيات يعيشون عليها بينما يستمر المغتصب فى سرقاته.
كيف بنى الكاتب روايته عن "مَىْ زيادة"؟ بناها من ستة فصول، وإن شئنا استعرنا لغة الموسيقى فقلنا إنها تتكون من ست حركات متماثلة فى المسافة والزمن إلا فى الحركة الرابعة التى تعد خروجا على النسق الذى اتبعه فى بنائه بحيث كاد أن يحتوى وحده على نصف مساحة الكتاب، ما يزيد على مائتي صفحة (240 صفحة) فى كتاب يضم أربعمائة وستين صفحة. وسنلاحظ أن بقية الفصول يتكون كل منها من خمسين صفحة ما عدا الفصل الخامس الذى نقص عن الأربعين صفحة . فلماذا اشتملت الحركة الرابعة على كل المساحة وسيطرت على صفحات الكتاب؟ السبب أن هذه الحركة هى قلب الموضوع وجوهر المأساة، فإذا كان الفصل الأول يحدثنا عن أحوال مريم فى بيئة اجتماعية متسلطة لا تعطى قيمة للمرأة إلا الدور الذى يرسمه لها الرجال، ويمهد لتماهي بنت الصعيد مع بطلتها الحقيقة "مَىْ زيادة"، فإنه يعطى كذلك التشابه الذى يكاد يكون تطابقا بين الأصل وصورته. بينما ينقلنا الفصل الثانى أو الحركة الثانية إلى بيئة "مَىْ" وبيتها وسعى أبيها للارتقاء بنفسه وبأسرته وبابنته بالتعليم وبالتحرك المستمر بحثا عن حياة أفضل يقترن فيها طموح الأب بحلم الابنة أن تكون مثالا للنبوغ وإحدى نجماته. وأما الحركة الثالثة فهي بدء انطلاقة العائلة وحصد النجاح والنبوغ فى مصر التى تغنت بكل ما رأته فيها منذ وطئت أرض مصر بدءا من الإسكندرية حيث رست الباخرة التى حملتها من بيروت إلى القاهرة "المحروسة" التى ليست حلمها أو حلم أسرتها بل "حلم أهل الأرض" وهى عروس الدنيا وباريس الشرق.. "أعشق فيكِ يا مصر الموسيقى والفن على المقاهي وفى المسرح والأوبرا. أعشق فيك الشعر والأدب. أعشق يا مصر فيك العلم ومعاهده وأعشق فيك روح الغرب بثقافاته ومبانيه ودروبه. حضارة خالدة ناهضة بروح العصر ذات نكهة مصرية أصيلة وشرقية ساحرة". وفى القاهرة لمع نجم العائلة.. الأب أنشأ جريدة المحروسة مرة ثانية بعد أن أغلقها صاحبها "إدريس بك"، وباتفاق بين الرجلين آلت المحروسة ومطبعتها إلى إلياس زيادة فصار صاحب الجريدة ومديرها المسئول بينما بدأت "مَىْ" أولي خطوات حلمها بأول ديوان شعر لها "أزهار حلم" وشجعها أبوها على الكتابة فى جريدته فوقعت فى البداية باسم مستعار. ومع صعود نجم العائلة كان هناك صعود آخر هو البناء الثقافي لأديبة المستقبل بالتعلم والقراءة والانفتاح على اللغات الأجنبية فكانت مسيرتها التى استمرت حتى صارت تخالط نجوم عصرها من الكتاب والشعراء والمفكرين والسياسيين كواحدة من قبيلة أصحاب الفكر الذين فتحت لهم صالونها الأسبوعي للحوار والدرس والمناقشة حتى صارت "مَىْ زيادة" أديبة الشرق بلا منازع. ثم نصل إلى الحركة الرابعة التى شهدت قمة النجاح وما يصاحبه من ضغائن وأحقاد ولا يدرك أصحابها إلا بريق النجاح دون أن يدركوا صعوبة البقاء والاستمرار.
ومن هنا تتحول العلاقات وتتدهور وتنقطع المودة وصلات القربى والمحبة إلى غيرة وكراهية أو حقد. يضاف إلى ذلك أطماع الطامعين بعد ذبول شجرة الحياة فى أسرتها بوفاة الأب ثم الأم ثم وقوعها فى عزلة اختيارية حاول أصدقاؤها إخراجها منها دون جدوى وشجع أهلها فى ديارهم إلى التطلع إلى وراثتها بالسيطرة عليها مستغلين ضعف أو رهافة حسها وعزلتها وهو ما أوقعها فى براثن مؤامراتهم حتى انتهى بها الأمر إلى الحجر عليها وإسكانها مستشفى للأمراض العقلية فى بيروت تسمى "العصفورية" ليبدأ من جديد محاولة مساعدتها وإخراجها من محنتها. وهو فصل غني بتفصيلات التأمر والغش والغدر والألم والإهانة وأيضا الرفض والمقاومة بالرغم من الوهن والضعف الجسدي والعزلة عن الناس والروح الشريرة التى تسيطر على أهلها والموالين لهم فى الإساءة والإهانة والرغبة فى السيطرة وقهر ذات كل ذنبها عندهم أنها نجحت وفشلوا وتلألأ نجمها وهم منطفئون، واغتنت وافتقروا. صارت فى عزلتها صيدا اقتنصوه ظنا منهم أنها فى وحدتها وعزلتها ونجاح تأمرهم قادرون على إخضاعها لولا إرادة كامنة فى ضعفها.. ومحبة عريقة من أصدقاء عرفوها وأخلصوا لها ولم يصدقوا ما قيل عن مرضها وجنونها، ولم يستسلموا لدعاوي كاذبة عن صحتها العقلية والنفسية.. وواجهوا الشر بالإيمان والتحذير بالشجاعة والتهديد بالاستهانة حتى نجحوا فى كسر طوق حصارها وأسمعوا صوتها إلى من يخلصها من الجور والظلم وهنا تأتي الحركة الخامسة التى تبرز الشخصيات التى تصدت لظالميها وصلابة مواقفهم حتى نجحوا فى تحريرها ويكون رد اعتبارها الإنساني والأدبي هو خاتمة حركات الكتاب وتمهيدا لخاتمة حياتها الحافلة صعودا وهبوطا وسعادة وألما ومرحا وترحا.
لم تنس "مَىْ زيادة" الأصدقاء، ولم تسمح لنفسها بقبول أعذار من صدق ما حدث لها وأوقعها فيما وقعت فيه.. لم تنس من وقفوا لمساعدتها وأخرجها من محنتها بإيمان صادق أن الحب والصداقة الحقة لا تنسي ولا تتخلي عن واجباتها الأخلاقية. لهذا أهملت أسماء نجوم فى الحياة الفكرية والأدبية لأنهم تخلوا عنها فى محنتها، وأبقت على أشخاص عرفوها ولم يصدقوا ما وقع لها وظلوا يبحثون حتى وصلوا إلى حقيقة الغدر بها والسقوط فى مهاوي التآمر كرها لها أو رغبة فى الاستحواذ على ثرواتها. لهذا احتفظت بأسماء "أمين الريحاني" و"مصطفى مرعي" و"حسين بك إدريس" و"كنعان الخطيب" وحذفت من ذاكرتها نجوما كانت وما زالت تتلألأ فى سماء آدابنا.
ويبدو أنها أحبت على البعد ذاك المثال الأدبي لشاعر فارق الأهل وغادر الوطن مرة إلى إنكلترا ليتعلم ومرة إلى نيويورك مهاجرًا يبحث عن حياة أفضل لينتج أدبًا أجمل. ربما أحبته لهذا، وربما أحبته حب المرأة للرجل.. ولكنها على كل حال لم ترتبط به ولم تلتق به لأنه توفي قبل تمام لقائهما، كما أنها كانت فيما يبدو تتمتع بعذرية المرأة وفطرتها ولم تشأ أن تنغمس فى تجربة الحياة المادية التى كانت فيما يبدو تعلو عليها بفكرها وتتعالي عليها بطبيعتها الروحية.