'نداء الوجود' صوت آخر في محراب الفلسفة العربية
يدعو الدكتور أشرف عمارة في كتابه الصادر حديثا عن ميتابوك للطباعة النشر بداية هذا العام 2024 تحت عنوان "نداء الوجود" إلي الاقتراب من النداء الحقيقي للوجود، بعد سلسلة من الكتب التي تشتغل علي الأبعاد الفلسفية في حياة الإنسان ووجوده فيؤكد هنا أن كل لحظة تمر دون الاستماع والإنصات للوجود الأصيل يفقد الوجود أنصاره ويفقد الإنسان إنسانيته ويقترب الإنسان شيئا فشيئا من الجمادات بل يصبح الإنسان في عالم اللغة هو والجمادات علي حد سواء وفي عالم الواقع لاحول ولا قوة ويبتعد عن عمقه الداخلي ومقاصده النهائية.
ويؤكد أن سماع نداء الوجود لايحتاج إلي فن أو مهارة من المهارات وإنما يحتاج انفتاح علي هذا النداء وإزالة الحجب.
ويستدعي في ذلك نداء الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكيف شهد الخلق جميعا لله بأنه الخالق، فنداء الفطرة هو استدعاء للذات علي الدوام لمواجهة مصيرها وغاياتها النهائية إنه النداء الداخلي الذي ينزع الإنسان من التشتت ويحيا في كل اللحظات نداء ضد كل أشكال التحكم والقمع الاجتماعي وأساليب السيطرة الشاملة علي كل مناحي حياة الفرد الوجودية.
ثم ينتقل الكاتب إلي نوع آخر من نداء الوجود وهو نداء الكون بكل ما فيه من مخلوقات سماوات وأراضين وشموس وأقمار وأفلاك، إنها جميعا تسبح وتلبي نداء خالقها، فيقول : يقول سبحانه وتعالي " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفوراً" سورة الإسراء آية 44
ويصر علي مطالبة الذين ابتعدوا عن تلبية النداء بسوق الدال علي ضرورة التلبية فيقول : يامن تركت النداء ألم تسمع قوله تعالى "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " سورة الحج آية 18
ثم يأتي النداء الثالث وهو نداء الرسل علي مر التاريخ الإنساني منذ هبوط آدم إلي الأرض تنادي عليه بالعبودية والإيمان والهداية وتذكره بالعهد والميثاق وتأخذ بيده بعيداً عن طريق الشيطان الذي توعد آدم بالإغواء والهلاك.
دعوات الرسل لم تنقطع ليستمر النداء وليتعاضد مع نداء الفطرة نداء الداخل الإنساني والوجود الداخلي ونداء الوجود الخارجي . فدعوة الرسل جميعاً والنداءات المتتالية تقوم علي التوحيد الخالص لله تعالي إلا أن كل رسول يختص بتقويم الانحراف الحادث في عهده وموطنه حيث إن الانحراف عن الصراط المستقيم يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان.
ويشير ألي أن الذين استجابوا لتلك النداءات عدد قليل من الناس، فلم يكترث كثير من الناس بها وهذا ما خلق الصراع الدائم بين الناس على صفحة الكون والوجود.
إنه يؤكد التحام الوجود مع الوجدان في الآفاق والأعماق " سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق " سورة فصلت آية 53 ، وأصبح الوجود في حالة من حالات الحضور المستمر المتجدد لمن يستمع ويدرك النداء.
بينما الذي أعرض ونأي فإنه يستسلم للزيف والضلال والضياع ويصبح في منأي من وجوده الأصيل ويفتح طريق الخسران رحبا إلي مالانهاية.
ومن ثم يقسم الكاتب كتابه إلي مجموعة من المباحث أولها من صبر الثبات إلي صبر العطاء، ويلوم علي بعض الناس عدم قدرتهم علي الخروج من دائرة صبر الثبات إلي صبر العطاء.. فليس ثمة صبر من أجل الصبر، لأنه بذلك يفقد ذاته ويغلق الباب علي نفسه ويتضاءل ويتهاوي وتذهب به الريح في مكان سحيق. فالصبر نوعان من وجهة نظره فيقول:
الأول: ضرب ثبات وصمود وقدرة علي التحمل لكل أنواع البلايا والمصائب والشدائد وكل ماهو من فتن ومعاصى.
والثاني ضرب عطاء وتحرك وتفاعل وتواصل ومجاهدة علي طول الطريق.
فالصبر مطلب إيماني لتحقيق الدعوة في الثبات والصمود وفي العطاء والأعمال والأفعال في الثبات والصمود في طاعة أوامر الرسول كما حدث في غزوة أحد من الرماة فلم يتحملوا صبر الثبات ولم يتحملوا صبر المرابطة ولم يتحملوا صبر طاعة أوامر رسول الله فنزلوا مندفعين من أجل الغنائم فكان ذلك سبب الهزيمة في المرحلة الثانية من الغزوة لأنهم لم يصبروا وتعجلوا. ومع غزوة ذات الرقاع التي إرتبط إسمها بحجم المعاناة والمشقة التي كان يجدها رسول الله وصحابته في سبيل الدعوة . لقد كانت رمزا لصبر العطاء والحركة والجد والجهد لقد بلغ كل هذا بالصحابة حتي لبسوا الجلود والخرق البالية كنوع من الأحذية بدلا من النعال ونظرا لوعورة الارض وكثرة الاحجار الحارة دميت أقدام الصحابة فكانت رمزا لصبر العطاء والجد والجهد.
فتحقيق الوجود الإنساني سواء وجوداً ذاتياً أو وجوداً جماعياً لايتم بدون مشقة وعناء ومقاساه إنه يستلزم الصراع والمشقة والمجاهده .
* بينما يتناول في المبحث الثاني الحضور بكل تجلياته ويبدأه بمجموعة تساؤلات فلسفية فيقول : مَنْ مِنَّا يَعِيْشُ الْحُضُورَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ مِنْ طَاقَاتٍ؟
مَنْ مِنَّا يستطيعُ أَنْ يحتفظَ بهذا الحضورِ ولا يَتْرُكَهُ يَفْلِتُ، ولو للحظة واحدة؟
مَنْ مِنَّا يملكُ القدرةَ لفتحِ ذَاتِهِ عَلَي ذلك الوجودِ ويكونُ حاضرًا فيه علي الدَّوامِ للكشفِ عن كل الامكاناتِ التي مازالتْ محتجبةً ومختبئةً؟ والتَّساؤلُ الذي يسبقُ كلَّ هذه التساؤلاتِ، ما الْحُضُورُ؟
إنه يذهب إلي أن الحضور يقظةٌ مستمرةٌ، وإعمالٌ لكل قوي النفسِ من حواسٍ وعقلٍ وقلبٍ وفطرةٍ للانكشافِ والاستشراف علي الوجودِ، إِنَّهُ كَشْفٌ لكلِّ الأحجبةِ التي مازالتْ يختفي وراءَهَا الوجودُ . والْحُضُورُ في كِيَانِنَا ووجدانِنَا الدَّاخليِّ لا يمكنُ أنْ ينوبَ أَحَدٌ فيه عَنَّا، أو يكون بوكالة أحد مِنْ هُنَا، ينبثقُ الحضورُ كحريةٍ فرديةٍ بأسمي معاني الحريةِ الداخليةِ . فالحضورُ ليسَ حضورَ الواقعِ فقط، بل هو الحضورُ الذي يبلغُ الآفاقَ ويبلغُ الأَعْمَاقَ، ويمتدُ عبرَ الزمنِ للماضي السحيقِ في قصةِ خلقِ آدمَ، والإغواء، وموقفِ الشيطانِ، وهبوطِ آدمَ إلي الأرضِ، وعداوة إبليس له، والأمم السابقة، وما آلَ إليها من مآلٍ، وماضينا وما به من ثغراتٍ وأخطاء وخطايا وحاضرنا وما به من أعمال، ومستقبلنا وما به من طموحات، ومستقبلنا البعيد وما به من أوصاف ومنازل لأهل الجنة وأهل النار. إنه الحضور المتعمق الممتد. ونجد تقسيما بديعا للحضور حين يقول : الحضور حضوران: - الحضور الحاضر - والحضور لأجل0 ويقدم توضيحا لهما فيقول : الحضور الحاضر: هو حاضر علي الدوام لا يغيبُ أبدا ولا يسهو ولا يغفل هو الأول والآخر منذ الأزل وإلي الأبد، إليه المصير، وإليه عاقبة الأمور.
وأما الحضور لأجل : فهو حضور كل مظاهر الوجود من حولنا من سماوات وأرض وأفلاك وجبال وبحار وأنهار وكل مافي الوجود وكل ما كان لأجل .. إنه حضور للغآية الكبرى، وهذا الحضور حضور أصيل متعمق طالما كان لأجل ما كان, به من الكوامن الداخلية التي تعبر عن عظمة الخالق والغاية التي من أجلها جاء إنه مسخر لغاية " كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"
ثم يذهب في الجزء الثالث من الكتاب إلي الحديث عن فيض الحضور ويؤكد فيه علي إن الحضور العميق فيض يتسع مداه بكل طاقاته ليلتحم بالواقع الخارجي إنه فيض الذات من أجل توكيد الوجود الاصيل ويتخطي بحضوره وتدفقه مجال الظروف ويشق طريقه الي الإمكانيات الضخمه.
ولكن هذا الفيض قبل أن يلتحم بالواقع الخارجي عليه أن يمتلأ ويفيض في الداخل بكل ما لديه من حضور ليثبت هذا الحضور الأصيل ويقضي علي كل الثغرات التي يمكن أن توجد في الداخل الإنساني فالإنسان الحق هو دوماً علي أهبة الاستعداد في كل لحظة لمواجهة الضعف أو الزيف الداخلي ولم يتحقق الفيض الخارجي الا بمساعدة الفيض الداخلي الذي أصبح فيضاً قضي علي كل الثغرات الداخلية التي يمكن أن تكون في لحظة من اللحظات في حالة من التردد او الامتداد المعاكس.
ثم يذهب لي المبحث الرابع متناولا تجلي الحضور فيقول : التجلي لحظة فريدة خالدة وربما تكون لحظات مدمجة متتالية ومتواصلة من شأنها أن تُحدث وجوداً متجدداً علي الدوام وتبعث في كل ذرة من الوجود أضواء وأنواراً .
التجلي كشف وإنفتاح مثلما تتفتح الزهور لا أحد يعوقه ,علينا فقط أن نتنفسه ونستحضره مثله مثل العبير يخرج ليطوف حول الوجود.
التجلي يكشف للإنسان أُفق الطريق ومابه من علامات ودلالات ويغوص في قرارة ذاته وفي طيات وجوده حيث تتهيأ القلوب وتصفوا بالأذكار وتتلاحم مع الوجود والواقع لتبث فيه الروح وتنسج حضوراً اصيلاً ويكسو الحياة عمقاً ومعني وسمواً وتصل الي محل النجاة قولاً وفعلاً لتغير الثابت الجامد فتُنميه وتقويه وتبعث فيه أنوار الحياة . إنه ملامسة الوجود ومعانقته بما فيه من نشاط وحركة ومجاهدة علي الدوام.
بالتجلي لم يبق في اليوم- في الليل والنهار- فراغ وتصبح يومية الحضور مزدحمة بالأعمال الجليلة بل فيها من الإحتياط مايكون مستعداً لسد الثغرات لقد إمتلأ الوجود بالحضور وفاض وأصبح الفراغ إسماً بلا مسمي لقد رحل وترك اسمه للذكرى.
وبالتجلي يُسمع النداء سماعاً في الآفاق والأعماق ويصبح الصبر ثباتاً وعطاءاً ويحضر حضوراً ويمتلأ إمتلاءاً ويفيض فيضاً ويتحرك تحركاً متتالياً وسريعاً ليطهر المكان بعد أن طهر الإنسان ويطهر الحجر والجماد بكل ماعلق به من أدران، وأوزار.
الدعوة ونشر النداء في كل مكان بالعمل والقول وأضعف الإيمان وأن يكون النداء والتجلي في إحساسنا ومشاعرنا وقوانا الداخلية متجلية في داخلنا تستنطق الواقع وتغذيه وتسعي للفعل وتقويه في كل الاتجاهات بنهضة علمية ثقافية حضارية إنسانية تأخذ بالنفس إلي أعلي عليين إلي مقامات وأحوال وتسمو بالنفس وتذكي النفوس وتحلق في الفضاء إلا أنها لاتفارق لمس رأس اليتيم وإطعام المسكين والسعي في الأرض في كل حين وإعداد العدة لمن ترك السمع وخرج عن فطرة الإنسان القويم ووقف في وجه النداء . التجلي تتممة النداء والحضور وإدخاله في خدمة الوجود.
إنه يقدم موقفه ويقول : إن منطق المجتمع الحالي منطق السيطرة وإرغام الإنسان علي السير في الاتجاه المحدد ليصبح شأنه شأن الآخرين وكما يريدون أن يكون. ولهذا يصبح التجلي المطلق الذي يعبر عن كل ماهو عميق إنسانيا، ملحاً في ذلك العصر .إننا نرفض كل المحاولات التي سحبت التجلي إلي أنفاق واخرجته من مفهومه الوجودي الذي طالبنا به في ثنايا هذا الكتاب منذ البداية. إنه التحرر من الحجب وليس حجبه.
التجلي يصبح رأسياً وافقياً رأسياً يتجاوز الواقع ويتسامي وأفقياً يسري في كل الطرق المحيطة من حوله ممتداً ماوسعه ذلك. إننا عندما نقيده ونقننه في إتجاه واحد أو شئ واحد بإقصائه وزجه خارج دائرة الحضور نحبسه ونحد من حركته وحريته التي هي حريتنا ونغلق أمامه كل الأبواب بسبب عوامل القهر والإستبداد التي جاءت من أنفسنا قبل أن تأتي من غيرنا ويعمل علي حبس التجلي في نطاق ضيق.
التجلي خلق عالم بديل من داخل عالم المتناقضات والكشف عن القيم والمفاهيم التي لم تتحول بعد إلي واقع وتهيئة الظروف المناسبة لتجسيدها علي أرض الواقع إنه – التجلى- الشرارة المتواجدة علي نطاق واسع في كل الحضور التي ستوقظ الناس الغافلين عما يحدث من حولهم وترسي قواعد للوعي الرافض لكل أشكال التضييق والإتجاه الواحد والذي ينتقص من الحضور الإنساني المتعدد الجوانب.
التجلي يحمل كل إمكانياته والتي إكتسبها من تطوره وارتقائه وعمقه وعمقه لتوسيع الحضور الإنساني بدلاً من الهروب منه أو الهروب به وأستحواذه والاستمتاع به في ملاذ بعيد إنه يعمل علي إعادة ماهو معطل منذ زمن بعيد والذي أدي إلي وجود مساحات شاسعه من الفراغ في حياتنا وثقوب في وجودنا وأصبحنا نعاني من الفراغ الذي أصبح حملاً ثقيلاً علينا فالذين عاشوا وحضروا التجلي بهذا المفهوم الشامل والمتعدد والمتنوع هم العظماء والنوابت الذين نبتوا في الوجود الأصيل ولم يدخروا جهداً في الالتقاء معه في كل مامن حولهم وسعوا علي أنفسهم كل ضيق كما إنهم وسعوا علي الأخرين وأفاضوا عليهم مما أفاض الله به عليهم.
والتجلي بهذا يفتح منافذ وآفاق جديدة من السعة والتسامي لكل الوجود ليصنع من الواقع واقعاً جديداً يصبح التجلي حاضراً فيه. هؤلاء هم أهل الحضور لايبخلون ولايتكبرون ولايسأمون بعد أن تمكن منهم التجلي يندفعون بتجلياتهم نحو كل صوب في كل عمل وكل إتجاه حاضرون وليس أي حضور إنه حضور تجلي بما يتناسب مع كل موقف وكل عمل، حاضرون مع الفقراء والمساكين من أهل العوز والإحتياج حاضرون مع أهل العلم والذكر حاضرون مع أهل الجهاد والمجاهدة حاضرون مع أهل العمل والسعي في الأرض لكل الأعمال لإطعام الفقراء والمساكين وإعداد العُده ومع كل هؤلاء هم أيضا مع فقراء الوجود والحضور ليأخذوا بأيديهم لمنازل السالكين ومقاصد المحبين.
كل التحية للكاتب والمفكر د. أشرف عمارة علي هذا الطرح الفلسفي النبيل داخل متن هذا الكتاب.