
نساء داود الأنطاكي
تعددت الشخصيات النسائية في المسرحية الشعرية "صاحب التذكِرة داود الأنطاكي" للشاعر الدكتور فوزي خضر، والصادرة عن سلسلة إبداعات التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة 2020، وبلغ عدد تلك الشخصيات النسائية خمس شخصيات من ثماني عشرة شخصية هي شخصيات المسرحية ككل، إلى جانب مجموعة شباب وشابات يؤدين حركات الرقص والغناء.
وجاءت الشخصيات النسائية الخمسة، فاعلة ونامية ومؤثرة ربما أكثر من غيرها من الشخصيات الرجالية، عدا شهيب (الذي يقود داود) وأمين المصري الطبيب الشاب الذي يساعد داود في كتابة أعماله ومؤلفاته، فنحن نعلم أن داود الأنطاكي كان ضريرا، ويحتاج لمن يساعده في كتابة ما يمليه من علم وأفكار وتجارب علميّة.
تبدأ المسرحية بصوت زهرة التي تضحك طويلا من منظر وقوع داود الأنطاكي وهو يدخل حديقة المسرح، فلم يكن معه خادمه شهيب وقتها، مما يسبب ألمًا نفسيًّا سنلاحظه طوال المشاهد عندم ترد كلمات تدل على الرؤية والبصر، مثل: ترى.
فتعاتبها صديقتها عفاف. وتنتهي المسرحية بصوت مجموعة من البنات مرددين:
داودُ .. يا داودْ
يا أيها الموعود
باحتْ لك الأسرار
ثم صوت المجموعة: داودُ .. يا داود.
وما بين البداية والنهاية مواقف درامية شعرية، لعبت فيها الشخصية النسائية دورا مؤثرا، فبعد أن عاتبتْ عفاف صديقتَها زهرة على ضحكها على الرجل الضرير الذي وقع عند دخوله الحديقة، يبدأ تصاعد الأحداث، ويمتد الحوار بين الفتاتين إلى أن ينهض داود نافضًا التراب عن ثوبه، وقت دخول شهيب المسرح والذي كان يقطفُ أوراقَ نباتٍ يحتاجها سيده.

لقد سمع داود ضحك الفتاة أثناء وقوعه وسخريتها منه، ونحن نعلم أن الإنسان الضرير يكون أشدَّ سَمْعًا من الإنسان العادي، وكأن الله يعوض حاسة عن حاسة، كما سمع عتاب صديقتها، ولكن الفتاة تسترسل في الاستهانة والتقليل من شأن داود بقولها: أعمى وأتى يتمشَّى في الغوطة.
ومن هنا يتفجَّر الموقف الدرامي والنفسي، ويتصاعد الحوار بين داود والفتاتين وخاصة زهرة، ومن خلال هذا الحوار نعرف أن زهرة فتاة سمراء، وأن داود يمتلك من الفراسة وسرعة البديهة وقوة الإقناع والرد على محاوريه، فتبدأ تتكشف لنا رويدًا رويدًا شخصيته التي يقدمها لنا فوزي خضر في تلك المسرحية، فنجد أمامنا إنسانًا راقيا، نراه مثلا للإصرار على النجاح والسعي إلى التفوق بالرغم من ظروفه الحياتية الصعبة التي يعيشها.
وتمضي زهرة في التقليل من شأن داود والسخرية منه خاصة عندما يخبرها أنه أعظم من داوى المرضى، فترد عليه قائلة: هذي – واللهِ – المِزحة.
أما دور عفاف في هذا المشهد فهو محاولة التلطيف بين الطرفين، وعندما تعلم أنه داود الأنطاكي تنحاز لصفه تماما، وترحب به، وتطلب منه زيارة دارها لمعالجة أخيها، فيستقبله والدُها الدمشقي في بداية المشهد الثاني. وعندما تعلم عفاف أن داود يستعد للسفر إلى مصر تحزن لهذا الفراق السريع، خاصة بعد أن مدحها الطبيب بقوله:
لأنك أنتِ الفتاةُ الرقيقة
رقيقة ..
كأنكِ وردةُ أحلى حديقة
رقيقة
كأنكِ نسمةُ صيفٍ
رقيقة
كأنك همسٌ حنون
فأنتِ عفاف التي .. (ثم قطع)
فتقوم عفاف خجلا وتخرج مسرعة من باب الغرفة، ما يدل على رقة أحاسيس الفتاة ومشاعرها.
إن هذا القطع وعدم الاسترسال في كتابة القصيدة هو موقف درامي في حد ذاته، يؤكد أن الشاعر يعي متطلبات كتابة المسرحية الشعرية وإلا مضى في القصيدة حتى نهايتها دون توقف، فيسحبه الشعر إلى عالمه الخاص، فينسى الشاعر أنه يكتب مسرحية شعرية.
وبسفر داود الأنطاكي إلى مصر تختفي زهرة من المسرحية، بعد أن أسهمت في الكشف عن بعض ملامح بطل المسرحية. ولكن عفاف ستلعب دورًا آخر ابتداءً من المشهد الرابع بالفصل الثالث، حيث باع أبوها أملاكَه في دمشق، التي كانت ستصادر، وجاء للعيش في مصر الأمان، أما هي فقد كانت فرحة لأنها قد تلتقي بداود الأنطاكي مرة أخرى في مصر.
ابتداء من المشهد الرابع بالفصل الأول تظهر فاطمة وعزيزة، وهما شخصيتان متنافرتان، الأولى أخت صالح وهي شخصية رقيقة عاطفية، والثانية زوجته وهي شخصية متسلطة تكره فاطمة، ويعيشون جميعا في منزل واحد، الأب فيه مريض وقعيد.
وكأن بمصر المعمورة لا يوجد أيُّ طبيبٍ
يمكنه أن يعلم كيف يداويهِ
ومع ذلك تكن المرأتان لبعضهما البعض عداءً يوميا بسبب أعمال المنزل، ومَن عليه الدور في الكنس أو الطبخ، وتمارس عزيزة القمع والتسلط على فاطمة التي تشكوها دائما إلى زوجها وأخيها صالح، لكنه لا يستطيع أن يتخذ معها إجراء حاسما، فيترك الباب مواربًا بينهما دائما. بينما تشكو عزيزة لصالح بقولها: أختُك تبغي أن تشعل نارا في هذي الدار.
وعندما يأتي الأخ الأصغر عباس بخبر عثوره على طبيب ماهر قال جميع الأطباء عنه أنه: هو الأوحد المرتَجى. ولكن عزيزة تنفث سمومها بسؤالها زوجها:
مهلا يا صالح ..
حتى نعرف كم يتقاضى من مالك،
ذاك المال المستنزِف من عمرك
تقضي فيه العمر ..
كي تحصل يا نورَ العين عليه.
صالح وعزيزة يعترضان عندما يعلمان أن الطبيب المرتجى هذا يعيش في أنطاكية ببلاد الشام، ولم يكن يعلم أحد من أفراد العائلة أنه أتى إلى مصر.
ولا تزال المشادات اليومية مستمرة بين فاطمة وعزيزة في بداية الفصل الثالث، ولا يزال التصعيد مستمرًا طوال المشهد الأول، مما يُكسب المسرحية بعامة أبعادًا إنسانية أخرى قوامها الصراع الدرامي بين شخوص المسرحية، وخاصة الشخصيات النسائية التي نفحصها في هذا العمل، والتي أسهمت في إثرائه دراميًّا.
وعندما يكتشف عباس (الأخ الأصغر لصالح وفاطمة) وجود داود الأنطاكي في القاهرة، ويستقدمه لرؤية أبيه المريض القعيد، يعترض صالح وزوجته على هذا الطبيب الضرير، وتوجه عزيزة كلامها لزوجها صالح قائلة:

هل ستتركه
كي يرى – يا حبيبي – أباك
أنا لست أقصد
قولي يرى
بمعنى يرى
وتتصدى لها فاطمة مقاطِعة:
اصمتي يا عزيزة
فلا أحدٌ
وسط هذي الظروف
يتحمل من لذعات لسانك.
وعندما يبدأ الأب في التماثل للشفاء على يد داود الأنطاكي يزول الخلاف بين فاطمة وعزيزة ويبدآن في التعاون فتقول عزيزة: أنا سأعد من عندي لكم أحلى غداء. وتتبعها فاطمة بالقول: وأنا معك .. حتى يساعد بعضنا بعضا.
وكأن زوال محنة الأب بشفائه على يد داود الأنطاكي، كان من شأنِه زوال العداء وسوء النية المتبادل بين عزيزة وفاطمة.
لم ينتهِ كيد النساء لبعضهن البعض بزوال ما كان من عداء بين عزيزة وفاطمة، ولكن تتصاعد قصة حب أخرى من جانب فاطمة لداود الأنطاكي، فتظهر فاطمة وصديقتها ونجية على شاطئ النيل في انتظار ظهور داود، وعندما لم يظهر تبادر فاطمة بالذهاب إليه في مسكنه بالقلعة لدى الوالي متعللةً باشتداد المرض على أبيها:
فأبي ..
به اشتد المرض
حتى غدا في حالة
لا يُرتجى فيها شفاء.
ولعلنا نلاحظ في هذا المقطع الشعري التقديم والتأخير (فأبي .. به اشتد المرض) لأننا في الأحوال العادية أو النثرية سنقول (اشتد به المرض) ولا نقول (به اشتد المرض).
وهي في الوقت نفسه تعاتب داود على أنه استسلم لإرادة الوالي في أن ينقطع عن الناس، ويترك مئات المرضى الذين يحتاجون إليه، فتقول له:
كيف توقف علمَك يا سيدي على واحدٍ؟
أوالي البلادِ أحق بعلمك
أم أهل هذي البلاد؟
وبذلك تؤكد فاطمة – أو المسرحية – على ضرورة أن يكون العلم أو الطب، أو علوم الطب، في خدمة الجميع، وتحمسه وتحرضه قائلة:
مسئولٌ أنتَ أمام الله
علمُك هو من أعطَى إياه
فاذهبْ للوالي
واستأذنه تعالجُ كلَّ المحتاجين لعلمك.
فيردُّ عليها داود: هذا ما سوف يكون
فاطمة: متى؟
داود: الآن.
وهكذا تلعب فاطمة دورًا مؤثرًا في مجريات المسرحية، وفي مجريات حياة داود الأنطاكي الذي نسي في لحظة ما دوره الحقيقي كطبيب يطبّب ويعالج المواطنين أو الناس العاديين، وليس الولاة أو الملوك أو الحكّام فحسب.
وبمجئ أو ظهور عفاف مرة أخرى – بعد انتقالِها مع عائلتها إلى مصر – سنجد دراما نسائية من نوع آخر، فالحبيبتان تتصارعان من أجل الفوز بالطبيب المشهور، وتدّعي فاطمة أن داود خطبها وتدعو عفاف لحضور زفافها.
ولكن داود يُغادر مصر مع خادمه شهيب وتلميذه أمين للحج والمكوث في الحجاز، تاركًا وراء ظهره فتاتين أو امرأتين تتصارعان على حبه.
وهكذا أسهمتْ نساء داود الأنطاكي في تصاعد الأحداث وتوجيهها، مما أكسب المسرحية بُعدا إنسانيا ودراميا، كانت ستفقده لو لم تكن المرأة هناك في صلب العمل وفصوله ومشاهده.
بقي أن نعرف أن داود بن عمر الأنطاكي (950 – 1008 هـ) صاحب كتاب "تذكِرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب"، الذي اشتهر ملخّصه بين الناس بعنوان "تذكِرة داود"، هو واحد من أعظم الصيادلة في تاريخ البشرية، جمع في كتابه ثلاثة آلاف نوع من الدواء، منها ثلاثمائة دواء من اكتشافه، تضمُّ كثيرًا من الأدوية المركبة، وتم تدريس كتابه في أوروبا زمنًا طويلاً، وكان طبيبًا بارعًا لدرجة أنه صار رئيسًا لأطباء مصر والشام في عصره، وألَّف ستةً وعشرين كتابًا، والعجيب أنه كان ضريرًا.
أما الشاعر د. فوزي خضر فقد صدر له أكثر من 80 كتابًا مطبوعًا في مصر والسعودية وقطر والكويت والأردن، ما بين دواوين شعرية وقصص ومسرحيات نثرية للأطفال، ودراسات أدبية وتاريخية. واشتُهر ببرنامجه الإذاعي "كتاب عربي علّم العالم" الذي أذيعتْ منه ثلاثة آلاف حلقة في عشرين دولة. حصل على جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام 2020، وجائزة الأمير عبدالله الفيصل العالمية في الشعر العربي (فرع الشعر المسرحي) عام 2019، وعلى جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1994. وتسلم شهادات تكريم في مصر والسعودية واليونان والكويت وليبيا وغيرها.