هاربون من الجوائز
بمجرد إعلان اسمك ضمن الفائزين بإحدى الجوائز الكبرى، تنهال عليك مئات الاتصالات التليفونية، وآلاف الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتبادر المحطات التلفزيونية باستضافتك في برامجها، ويصبح حديثك للكاميرات والميكروفات هو السائد في أغلب المنظومة الإعلامية، وتجد نفسك مشدودًا رغم أنفك لـ "فرح العمدة"، فأنت عريس الليلة وكل ليلة، وضيف كل ندوة وكل ملتقى وكل حوار صحفي، ونجم كل جلسة حتى لو كانت على المقهى أو الكافتيريا، حتى يتناسى القوم هذا الفوز الذي ستخلده أنت في سيرتك الذاتية والأدبية العامرة.
ستقضي أياما في أفراح وابتهاج وسعادة وتكريم، وتنسى كل أيام اللامبالاة والتعتيم، التي أرادها البعض لك، ولكن تأتي الجائزة لتنقذك ماديا وتلمعك معنويا، فتصبح النجم المفضل للكثير من البرامج لتتحدث عن كفاحك ونضالك والعراقيل والعقبات التي كانت في طريقك، وعوامل فوزك ونجاحك، والنصائح إلى توجهها للشباب ليحذو حذوك ويفوزوا مثلك.
وإذا كنت واحدًا من هؤلاء السعداء والمبتهجين والمستجيبين لكل طلب باعتبارك الفائز الكبير، فإن هناك من يفضل العزلة، ويرفض البريق الإعلامي، ويعتذر أكثر مما يقبل، وينزوي ويخجل من ردة الفعل المبالغ فيها لدى الآخرين، وسبحان مغير الأحوال.
الفنان التشكيلي محمود سعيد كان من هؤلاء الخجولين الذي يفضلون العزلة والانزواء مع لوحاته وأعماله الفنية. كان يخجل من المديح والثناء. وكان أيضًا حساسًا للغاية. عندما كان صغيرًا، انزعج من حصوله على الجائزة الأولى في أحد معارض القاهرة، واعتبرها مجاملة لوالده – محمد سعيد باشا - الذي كان رئيسًا لوزراء مصر في ذلك الوقت، وليست تقديرا لفنه. كما أنه شعر بالحرج لكونه أول فنان تشكيلي يفوز بجائزة الدولة التقديرية عام 1960. وحصل وقتها أيضا على وسام الجمهورية، وتسلمه من الرئيس جمال عبدالناصر. كان منزعجاً جداً من الأضواء والصحافة والإعلام التي هبطت عليه وخنقته عندما فاز بتلك الجائزة. كان حريصًا على أن تنتهي الاحتفالات والتكريمات حوله سريعًا حتى يتمكن من العودة إلى عزلته الهادئة، وتأملاته الملونة. في لحظات العزلة والتأمل هذه كان يخترق أسرار الطبيعة ووجوه الناس ليلتقط معانيها ويسجلها.
أما نجيب محفوظ، فعلى الرغم من أنه محب للناس ويعيش بينهم في المقاهي والحواري والأزقة والطرقات والعوَّامات، ويكتب عنهم ولهم، ولم يكن أرستقراطيا مثل صديقه محمود سعيد، ولكنه كان من عامة الشعب، فإنه كان دائم الشكوى أيضا من أضواء الصحافة والإعلام التي خنقته بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، لقد أحس أنه موظف عند الجائزة.
لم يكن نجيب محفوظ مصدقًا أنه فاز بنوبل، إلا عندما زاره السفير السويدي وزوجه – كأول الزائرين للتهنئة – يقول محفوظ عن هذه المقابلة: قابلت السفير السويدي بالبيجامة، وفوقها الروب دي شامبر (الذي قالت زوجتي إنه دخل التاريخ، وهي تتذكر دائما أنه كان روبا صيفيا خفيفا لونه أحمر، وفيه ورود)، وكنت آكل قبلها بصلا، عملا بنصيحة توفيق الحكيم أنه يخفِّض السكر! وكانت زوجتي بملابس المطبخ، وظلت بالملابس نفسها يومين كاملين، لأن الأغراب احتلوا البيت كله طوال هذين اليومين، وكان من الصعب تغيير حتى الملابس، لدرجة أن زوجتي وبنتيّ قلن لي يومها: إلى الإسكندرية واهربْ من كل هذا.
أما ما حدث مع صحفية من "نيويورك تايمز" الأمريكية عندما جاءت ندوة قصر النيل، لتأخذ حديثا صحفيا من صاحب نوبل، فعرض عليه روَّاد الندوة أن يتركوه معها، ويجلسوا على مائدة مجاورة، فرفض محفوظ تماما، وقال إنها جاءت دون موعد سابق، وهذا الوقت مخصص لأصدقائي، فما كان من الصحفية إلا أنها ضربت الأرض بقدمها اليمنى في غيظ واضح، وذهبت دون أن تحصل على كلمة واحدة منه.
ولعل هذا كان بداية عزوف محفوظ عن الإعلام بعد فوزه بنوبل. لقد شعر في وقت من الأوقات أنه "موظف عند نوبل".
لقد شغلته الجائزة عن سفره المعتاد إلى الإسكندرية، والحصول على بعض الراحة والاستجمام. أحيانا كان يتجنب الذهاب إلى البيت خشية مصادفة من ينتظره هناك من زوار وصحفيين وإعلاميين ووكالات أنباء وكاميرات، ولكن "الهروب" خارج البيت أيضا كان صعبًا للغاية، لذا كان يراقبُ شقته من بعيد. فإذا وجد مصابيح حجرات معينة مضاءة في المنزل، مثل حجرة الاستقبال، يعرف أن هناك زوارًا فيبتعد، وكذلك الأمر في مكتبه بـجريدة "الأهرام"، وغيره من الأماكن التي كان يتردد عليها.
يقول محفوظ: أشار عليّ سلماوي بالسفر إلى الإسكندرية قائلا: "إن الإسكندرية ستكون هادئة الآن في الشتاء، وستنعم بقدر من الاستجمام أنت بحاجة إليه".
وبالفعل أحتاج إلى أن أنشق في الجو الصافي عبير الشتاء غب المطر. وأنا أعرف أن الإسكندرية تكون أشد انطواء على نفسها في غير أيام المصيف، حتى لتبدو مغلقة الأبواب في وجه الغريب. ولكني لست غريبا في الإسكندرية، خاصة بعد أن تزوجتُ إحدى بناتها، وبعد أن وضعت توقيعي على قائمة الطعام في أحد مطاعمها بمحطة الرمل، إلى جانب توقيعات أخرى لبعض مرتادي المطعم من الكتَّاب والفنانين والمشاهير من أمثال: الملكة صوفيا ملكة إسبانيا (خريجة فكتوريا كوليج بالإسكندرية) وفؤاد المهندس، وأحمد رجب، ومصطفى حسين، وغيرهم.
عندما قرر محفوظ السفر إلى الإسكندرية، أخبر سكرتيرته في جريدة الأهرام، وطلب منها ألا تحدد أية مواعيد في الأيام المقبلة، لأنه سيذهب إلى الإسكندرية لقضاء يومين استجمام. سألته السكرتيرة: كيف ستسافر؟ هل تريد أن أعد لك سيارة خاصة؟ قلت لها: سأسافر كما أسافر دائما في القطار أو الأتوبيس الصحراوي. فقالت السكرتيرة: ولكن الآن بعد نوبل ... قاطعها محفوظ في شيء من الغضب قائلا: وماذا بعد نوبل؟ أنا لم يتغير شيء في حياتي.
وهنا تدخل سلماوي – الذي كان موجودا وقتها في مكتبه - ملطِّفا وقائلا: إن السكرتيرة لا تقصد أن حياتك يجب أن تتغير بعد نوبل، لكن فوزك بالجائزة يعتبر حدثا وطنيا كبيرا يدفع جميع أبناء البلاد للتهافت عليك ومصافحتك والتحدث إليك كلما رأوك في أي مكان عام، لذلك فلن تنعم بأية راحة لو أنك سافرت بالأتوبيس العام.
فرد عليه محفوظ قائلا له: ربما كان من حق أبناء البلد عليَّ أن يصافحوني، فإن إقبالهم على قراءة كتاباتي هو الذي منحني في النهاية الجائزة. وأسوأ ما يمكن أن يحدث لي هو أن تعزلني نوبل عن الناس.
وسافر محفوظ يومها إلى الإسكندرية بالقطار!