هاشم النحاس يقدم كتابات تأسيسية في الثقافة السينمائية

البحث الدؤوب والجهد النظري المقدم في هذه الدراسات يزيل الحدود بين ما هو أجنبي وما هو قومي.
أهمية كتاب النحاس تنطوي على القيمة العالية للدراسات التي يحتويها وأهميتها البالغة
التكوين الدرامي للصورة السينمائية في فيلم المومياء
شخصيات ميرامار بين الرواية والفيلم

القاهرة ـ من أحمد مروان
لا يبدو كتاب "كتابات تأسيسية في الثقافة السينمائية" مجرد كتاب في النقد السينمائي أو في المفهوم الأوسع، الذي يحتوي النقد السينمائي وهو مفهوم الثقافة السينمائية كما يطلق عليها المؤلف هاشم النحاس، بل إن أهميته تنطوي على القيمة العالية للدراسات التي يحتويها وأهميتها البالغة، برصد الكتاب البدايات الأولى لتأسيس الدراسات السينمائية والنقد السينمائي المنهجي في العالم العربي.
قدم للكتاب د. محمد كامل القليوبي، وترجع بعض الدراسات التي يحتويها الكتاب إلى عام 1963 أي إلى ثلاثة وخمسين عامًا مضت، بينما يرجع أحدثها إلى عام 1975، وهي فترات طويلة نسبيًا في عالم يتغير بمعدلات سريعة للغاية، لكن وعلى الرغم من ذلك فإنها تحتفظ بحيويتها ومرونتها، وتزداد أهميتها باضطراد مع مرور الزمن، حيث يرى القليوبي أن هذه الدراسات الرائدة في مجال الدراسات السينمائية لا على مستوى مصر فحسب وإنما على مستوى العالم العربي كله، تكمن أهميتها في قيمتها كدراسات تأسيسية تضع أسسًا معرفية للثقافة السينمائية، وتقدم فِهمًا جديدًا على مستوى الثقافة العربية عمومًا والثقافة السينمائية على نحوٍ خاص.
ومما يراه د. القليوبي تحليله للعبارة التي يرددها البعض من أن السينما فن وافد،  يقول: "هي عبارة تبدو كاعتذار عن موجات الهبوط التي تعتري هذا الفن في بلادنا، حيث لا يدرك أصحاب هذه المقولة ومروجوها أن جميع الفنون في العالم وجميع الأعمال والصياغات الأدبية والموسيقية وحتى التكنولوجيا المعاصرة جميعها فنون وأدوات وافدة، يسعى العالم كله شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا إلى احتوائها، ووضعها في صياغتها القومية المناسبة وفي إطار ثقافاتها، وهو ما يُقدم عليه هاشم النحَّاس هنا دون تردد. إن البحث الدؤوب والجهد النظري المقدم في هذه الدراسات يزيل الحدود بين ما هو أجنبي وما هو قومي، ويشغل حيزًا من ثقافة العالم، وإسهامًا على نفس المستوى في ثقافتنا العربية، ليس باعتبارها مواجهة له، ولكن باعتبارها جزءًا منها".
إن  أول الدراسات التي يحتويها الكتاب هي دراسة "سيكولوجيا الإبداع والسينما" (نشرت عام 1970)، تضع ما يشبه البيان (المانفيستو) لفهم علمي، حيث يجد المؤلف معادلآً لتطبيقاتها لدينا مسترشدًا بدراسات د. يوسف مراد ويتوصل الكاتب إلى وضع خريطة واضحة، تمكنه من تقييم العمل السينمائي، بتحديد الأبعاد التقريبية الخاصة لهذه الخريطة بمجموعة من الأسئلة عن الحساسية للمشكلات، وعن الطلاقة، وعن المرونة فى التفكير، وعن الأصالة، وبعد أن يقدم نماذجه مُستشهدًا بعدد من الأفلام المهمة على مستوى العالم، يطبق خريطة أسئلة على الوضع السينمائي في مصر، وينتهي إلى أنه سيوجد دائمًا نوعان من السينما، سينما خاصة وسينما عامة، ولا بد أن تتأثر السينما العامة بأساليب السينما الخاصة وتأخذ منها ما تراه ملائمًا لأغراضها، بنزوعها المستمر إلى الإبداع وإلا فقدت مبرر وجودها ذاته.
أما خيار الدراسات كلها فينصب على هذه السينما الخاصة بدراسات جمالية لعددٍ من أهم نماذجها سواء على المستوى العالمي أو المحلي، اللذين يفترقان من ناحية شبكات التوزيع ومنافذ العرض، لكنهما يحملان كل سمات السينما الخاصة الفنية وأساليبها دون أي إحساس بالدونية تجاه الغرب أو الشرق في أفضل النماذج التي يقدمانها.
من هنا تأتي البداية بدراسة “التكوين الدرامي للصورة السينمائية في فيلم المومياء” (نشرت 1970)، حيث يقوم الباحث بتحليل تسع صور من فيلم «المومياء» للمخرج شادي عبدالسلام، وهو لا يقدم التكوين الدرامي بالصورة المتعارف  عليها، التي قام هاشم النحَّاس بنفسه بترجمة وإصدار فصول من أحد أهم كتبها "التكوين في الصورة السينمائية" لمؤلفه جوزيف ماشيللي، ولكن يرصد الحركة داخل الصورة، مما يضع أهمية خاصة لهذه الدراسة.
الكتابة بالضوء
يتضمن فصل "الكتابة بالضوء"، حوارا مع مصور فيلم "المومياء" عبدالعزيز فهمي، الذي يعد واحدًا من أهم مديري التصوير في تاريخ السينما المصرية، ويتحاور معه هاشم النحَّاس حول تجربته في مجال التصوير السينمائي عامة، محاولاً فهم آلية العملية الإبداعية للصورة وخصوصًأ أثناء التصوير، والمشاكل والتحديات التي يواجهها، وكيف يمكن التعبير بالضوء عن المواقف الدرامية المختلفة بالفيلم متجاوزًا قصور الإمكانيات الآلية المتاحة، ومن هذه الدراسة التي تعد وثيقة مهمة في رصد تجربة عبدالعزيز فهمي الإبداعية، ينتقل بنا هاشم إلى تقديم وثيقة نادرة في تجربة المخرج الأهم في تاريخ السينما المصرية صلاح أبو سيف، بتقديم فصل من كتابه "يوميات فيلم" الذي يعد عملاً رائدًا غير مسبوق في مجال الدراسات السينمائية، حيث يدخل فيه هاشم النحَّاس إلى المطبخ الإبداعي لأبي سيف ليقدم هذه الوثيقة النادرة عن تصوير اللقطة «1، 7» عنوان هذا الفصل، ويرصد فيه من واقع حضوره لتصوير فيلم «القاهرة 30» بأكمله أسلوب عمل صلاح أبو سيف في الإخراج الفني.
وفي فصل بعنوان "شخصيات ميرامار بين الرواية والفيلم"، يقدم المؤلف دراسة تفتح مجالاً رحبًا لتأمل علاقة السينما بالأدب، حيث يقدم نموذجًا مهمًا يجمع بين التحليل الروائي الأدبي والتحليل السينمائي في قراءة ممتعة للكلمة، بكل ما تحمله من دلالات وبين الصورة السينمائية التي تُقدَّم من خلالها، ولذلك يتناول ست شخصيات تتصارع حول "زهرة" التي تمثل بعدًا رمزيًأ لمصر، على غرار شخصية "حميدة" في رواية "زقاق المدق"، موضحا ما في عالم نجيب محفوظ بتشابكاته وتركيباته البالغة العمق والثراء والرمزية، وينتهي هاشم النحَّاس إلى أن الفيلم قد ضحَّى بكل المكاسب التي وفرتها له الرواية دون مقابل، وتحولت "زهرة" إلى مجرد فتاة ريفية ساذجة هربت من القرية تشدها بهرجة المدينة وتأمل في الزواج من أفندي.
فيلم ولوحة الجرينيكا
يكشف الكتاب كيف كان هاشم النحَّاس الباحث السينمائي العربي الأول، الذي كان بإمكانه الجلوس إلى طاولة المونتاج (المافيولا)، التي كان عدد المتوفر منها قليلاً وقتها، فلقد كان بوسعه دون سواه أن يقوم بنقل مشاهد كاملة بجميع تفاصييل لقطاتها من الأفلام التي يقوم بدراستها والكتابة عنها، ولقد أتاحت له هذه الإمكانية أن يقوم بنقل تفصلي لسيناريو فيلم "جيرنيكا"، من النسخة الأصلية للفيلم، وتحليل مشاهده ولقطاته في أول دراسة من نوعها باللغة العربية، عن أفلام الفن تحت عنوان "جيرنيكا وأفلام الفن"، ومن جانب ما تبدو هذه الدراسة كاستئناف لدراسة هاشم النحَّاس للتكوين الدرامي في فيلم "المومياء"، فهي تنتقل بنا من التناول التشكيلي للصورة المتحركة في فيلم "المومياء" إلى تناول بعض الحركة في الصورة الثابتة، عن طريق حركات الكاميرا المختلفة، واستخدام العدسات، وابتداع الحركة بالضوء مع استخدام طرق الانتقال المختلفة (قطع، مسح، مزج، ظهور واختفاء تدريجيين)، وكيف يسهم المونتاج في كل ذلك.
الفيلم من إخراج آلان رينيه وروبرت هاسان، ويحتوي على مئة وخمسين لقطة يسجلها هاشم النحَّاس لقطة بعد أخرى، ويعبر الفيلم عن مأساة قصف وتدمير مدينة "جيرنيكا" أثناء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1937، من خلال لوحة "جيرنيكا" وأعمال فنية أخرى لـ "بيكاسو"، وبمصاحبة قصيدة الشاعر الفرنسي الكبير "بول إيلوار" التي تحمل نفس العنوان، هكذا يقدم هاشم النحَّاس دراسته المهمة الرائدة عن العلاقة بين السينما والفنون التشكيلية، ولعله أول باحث عربي يهتم بذلك.
وفي مجال نقل الأفلام المهمة وتحليلها على طاولة المونتاج، توجد للكاتب دراسة أخرى ذات أهمية خاصة عام 1970 عن مشهد "سلالم الأوديسا" في فيلم "المدرعة بوتومكين" لسير جي ايزنشتين عام 1924، الذي يُعد المشهد المهم في تاريخ السينما حتى يومنا هذا.
وفي الفصل الأخير من هذا الكتاب يعود بنا النحاس إلى مخرجه الأثير صلاح أبو سيف في دراسة مهمة عن "إخراج صلاح أبو سيف"، يتناول فيها بالتحليل ثلاثة وعشرين فيلمًا من إخراج صلاح أبو سيف، بدءًا من أول أفلامه "دائمًا في قلبي" عام 1945 حتى فيلم "لا تطفئ الشمس" عام 1961، وتعد الدراسة المنهجية الأولى في النقد السينمائي العربي.
ولعل ما يستحق الانتباه هنا كما يرى د. القليوبي أن الدراسات التي يحتويها الكتاب تستدعي ضرورتها الآنية لدى قراءتها، لأن رهان النحاس على الأفلام التي قام بدراستها ورصدها، كان رهانًا حقيقيًا على بقاء هذه الأفلام راسخة ومهمة في تاريخ الفن الإسلامي، رغم حداثة إنتاج بعضها وقت قيامه بدراستها والكتابة عنها، وهو ما يعطي هذا الكتاب الحيوية في التناول، ويعطيه القدرة على البقاء جنبًا إلى جنبٍ مع كل المراجع السينمائية، التي نعتبرها مراجعًا أساسية في فن السينما حتى وقتنا هذا. (خدمة وكالة الصحافة العربية).