هاني علقم يرصد في لوحاته وجوه مرتادي المقاهي

أعمال التشكيلي الأردني تتركز حول الحياة الشعبية بجوانبها المختلفة، مستلهمًا منها الموضوعات والأفكار والرؤى.
عمر الخروصي
مسقط

تتنوع أعمال التشكيلي الأردني هاني علقم بين الرسم بالأكريليك على القماش والتركيب الإنشائي، وتتركز تجربته الفنية حول الحياة الشعبية بجوانبها المختلفة، مستلهمًا منها الموضوعات والأفكار والرؤى التي تتحول على يديه إلى لوحات ضاجّة بالألوان وصاخبة بالمعاني والدلالات.

ولعل ارتباط ريشة الفنان برسم مظاهر الحياة الشعبية قادمٌ في الأصل من رغبته في التعبير عن ذاته التي نشأت وتشكّلت ضمن هذا الإطار الاجتماعي، حيث وُلد علقم عام 1977 في بيت يقع بأحد جبال عمّان، وعوضًا عن الذهاب إلى المدرسة آثرَ الطفلُ الذي كانَهُ التجوُّلَ في أروقة المدينة القديمة وأزقتها الضيقة، وفي تلك المرحلة المبكرة من حياته أُولع برسم الخرائط، واستهوته الخطوط المتقاطعة والمتعرّجة، وفيما بعد بدأت تتبلور ميوله الفنية بشكل واضح.

أنجز علقم الذي تخرج في معهد الفنون الجميلة بعمّان عام 1994 لوحات للبيوت التي تتراكب وتتراكم كأنها طبقاتٌ غطّت الجبلَ وتعربشت فوق حجارته، وتبدو تلك البيوت للناظر من الأعلى كأنها حبال من الضوء تشابكت معًا، أو كهوف قديمة تنبض بالنور والحياة.

هذا الاهتمام بالمكان وساكنيه ظهرَ ضمن أولى أعمال علقم، وتحديدًا في معرضه الشخصي الأول الذي أقيم عام 2004، وأبرزَ الفنان من خلاله بصمته في الرسم، حيث الألوان القوية، والخطوط الأقرب إلى الاسكتشات الفنية، والاهتمام بتحديد الأشكال باللون الأسود.

وحضرت المدينة كذلك في أعمال علقم التركيبية، مثل عمله "هنا عمّان" الذي عرضه عام 2011، حيث رسم المدينة على خزانة ملابس صُنعت في ستينات القرن الماضي، وغطّى كل زاوية فيها بالرسومات والألوان، فبدت المدينة هنا ملاذا آمنا ومحطة تستريح فيها الروح، ومشهدا جماليًّا ينفتح على العالم برحابة.

ومن بين مظاهر الحياة الشعبية المتنوعة اهتم علقم برسم المقاهي على وجه التحديد، وبخاصة تلك التي تنتشر في وسط المدينة وتشهد توافد تجمعات بشرية من كل الأطياف، وأبرزها مقهى جامعة الدول العربية الذي يقع مقابل المسجد الحسيني وسط المدينة.

ويقول علقم "كنت أرتاد ذلك المقهى، وأقضي وقتًا طويلًا هناك على طاولة تكاد تكون مخصصة لي، أرسم فيها اسكتشات عديدة.. وعندما أغلق هذا المقهى أبوابه انتقلت إلى مقاهٍ أخرى في المنطقة".

وثّق علقم عبر ألوانه جزءًا من حياة ذلك المقهى برواده الذين يقضون جلّ نهاراتهم ولياليهم فيه، وخصص له معرضًا كاملًا حمل عنوان "مقهى الجامعة العربية" أقيم عام 2007، وجاءت البطولة فيه لمكونات المقهى، الكراسي الخشبية الصغيرة التي بدت كما لو أنها بشر ينبضون بالحياة، يتحاورون ويتسامرون، والنوافذ التي تحيل على إرثٍ معماريٍّ غنيٍّ وتَبرز مثل طاقاتٍ تبثّ النور والألفة للمكان، والطاولات بسيطة الشكل التي تتوزع في المساحات من غير انتظام.

بعد خوضه حلقة تدريبية مع التشكيلي مروان قصاب باشي، بدأ علقم تطوير أعماله نحو مسارات جديدة، واستطاع امتلاك القدرة على رؤية الأشياء بطريقة فنية ومغايرة للمألوف، وانقطع عن الرسم فترةً لينغمس في قراءة الكتب الفنية وصقل تجربته وتلمُّس بصمته التي تميّزه عن سواه، وبدا من الواضح ارتباط أعماله بالمدرسة التعبيرية، حيث تمتلئ لوحاته بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية.

ظهر ذلك جليًّا في رسم علقم للوجوه التي تُبرز ملامحها مشاعر الشخصيات من فرح أو حزن أو انكسار.. إذ امتلك الوجه طاقة تعبيرية -عبر التشكيل واللون- قادرة على الغوص في أعماق النفس ورؤية ما هو أبعد من ملامحه الخارجية، وكشْف الغطاء عن ذلك العالم المتواري في الخلفية البعيدة للمشهد، كما في أعمال الفنان التي تضمنها معرضه المشترك مع ريم معشر عام 2021.

وتعامل الفنان هاني علقم مع الألوان وفق رؤية يقودها حسه الداخلي، ونفذ غالبية أعماله بالأكريلك على القماش، باستخدام الألوان القاتمة أو المعتمة، من الأسود والبني والأخضر الغامق، مع التركيز على مفردات الظل والتداخل اللوني بخاصة في رسم خطوط الوجوه وحدودها، تلك التي تبدو غالبًا وجوهًا أرهقها التعب وتركَ الزمن خطوطه فوقها.

يلجأ علقم بوصفه رسامًا تعبيريًّا، للفرشاة لتصوير المجتمع من حوله، الإنسان وحركاته، وذاكرته.. وتلعب الوجوه العادية دورًا مهمًّا في بلورة أفكار، فهي تحرضه على "التفكير بأشياء كانت مجهولة" بالنسبة إليه، وتسمح له بـ"رؤية العالم من خلال العينين اللتين تبدوان عتبتَين لخوافي النفس وبواطنها".