هل أصبحت الحرب الاقليمية وشيكة؟

الإسرائيليون يأخذون باعتبارهم مستوى الرد المنتظر في الجبهة الشمالية، سواء من إيران نفسها أو عبر حزب الله.

في ظل حالة التصعيد المتواصل في المنطقة، والتي بدأت منذ السابع من أكتوبر في فلسطين وانتقلت في اليوم التالي إلى الشمال والحدود مع لبنان، ووصلت اليوم إلى حالة من الغليان على الجبهات المختلفة، خصوصاً الشمالية، ما هي فرص انتقال الحرب إلى لبنان في ظل ارتفاع وتيرة وتعقيدات المشهد، أو حتى انفجار حرب إقليمية أوسع تصل لإيران، خصوصاً في أعقاب استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا، في تحدٍ سافر ومباشر لإيران. 

قد يشعر المتابع للتصريحات الرسمية والأحداث المتأججة في الشمال على الحدود مع لبنان الملاحظة مؤخراً بالقلق من انفلات حالة الاشتباك المنضبط والمتفاهم عليها ضمنياً طوال الأشهر الستة الماضية، إلا أنه من الصعب فصل ذلك التصعيد عن معطيات مهمة تحكم المشهد برمته، وتساعد في استشراف مدى إمكانية تطور تلك المناوشات لحرب أوسع. 

جاء تصاعد التصادم الميداني على الحدود الشمالية مع لبنان بين حزب الله وجيش الاحتلال الاسرائيلي متدرجاً. بعد العدوان السافر الذي شنته دولة الاحتلال على غزة، بدأ حزب الله من الجبهة الشمالية المتوترة أصلاً، بمناوشات عسكرية محدودة ومضبوطة ضد الاحتلال، مدعومة بموقف معلن لإسناد جبهة غزة، لتشتيت هجوم الاحتلال على قطاع غزة. وبالفعل لم يتجاهل جيش الاحتلال ذلك التطور، ووزع جيشه ما بين المحورين الجنوبي الغزي والشمالي اللبناني.

في أعقاب دخول الاحتلال في معركة برية ضد غزة، زادت حدود تلك المناوشات، ووصلت مع تطور حرب الإبادة والتدمير الممنهج الموجة ضد المدنيين العزل وكل مرافق الحياة في القطاع لحرب استنزاف متصاعدة، بلغت ذروتها في ظل التهديد باجتياح رفح، آخر مدن القطاع والتي تحتضن أكثر من مليون فلسطيني. خلال الأسبوع الماضي، تخطت هجمات إسرائيل على لبنان حاجز المسافة والأهداف، ورد الحزب برد متناسب، لكن الأخطر إرتبط بإرسال إسرائيل رسائل مقصودة، من جهات رسمية، تركز على إحتمال توسيع حرب الاستنزاف مع لبنان لحرب واسعة في الشمال. إسرائيل التي تعي جيدا متابعة الحزب لتصريحاتها، كانت تتعمد إرسال تلك الرسائل، لكن ما مدى جدية إسرائيل؟

لم ينفصل الهجوم الذي شنته إسرائيل على القنصلية الإيرانية في سوريا، وقتلت خلاله قيادات عسكرية إيرانية ذات وزن عن ذلك التصعيد الميداني العسكري، سواء كان ذلك في لبنان أو سوريا. ولا شك أن إسرائيل تضع في اعتبارها عدد من المعطيات تحكم مخططاتها تجاه الجبهة الشمالية. قد تكون أول تلك المعطيات مرتبطة بدراسة إسرائيل لحدود الرد الإيراني اللبناني على أي تصعيد تقدم عليه، والذي خضع للفحص طوال الأشهر الستة الماضية، وكان آخرها حادثة القنصلية الإيرانية. وأثبت التجربة في ظل تصاعد الأحداث منذ 7 أكتوبر أن حزب الله لا يرغب بالذهاب لحرب شاملة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي لم يخفه الحزب نفسه، وقيادات الصف الأول في الساحة السياسية اللبنانية. كما أن إيران لا تنوي أو ترغب بالانخراط بحرب إقليمية، تعلم أنها ستكون مع الولايات المتحدة وليس مع إسرائيل فقط، فاعتمدت منذ بداية 7 أكتوبر سياسة التصعيد من خلال حلفائها، بشكل محسوب بدقة. إن موقف إيران وحزب الله يفسر حدود المعركة القائمة على جميع المحاور، والتي بدأت منذ أكتوبر الماضي.

ويتعلق المعطى الثاني بتركيز إسرائيل على استمرار معركتها في غزة، وعدم نيتها حسمها قريباً، في ظل استمرار الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة ضد نتنياهو وحكومته، الضاغطة لإطلاق سراح المحتجزين في غزة وإعادة المستوطنين الذي أخرجوا من الشمال والجنوب تحت وطأة ضربات غزة ولبنان. على الجبهة الشمالية، ركزت إسرائيل في ظل وضعها للمعطى الأول في الإعتبار على طريقين، الضغط بالتصريحات والتصعيد الميداني بالتلويح بحرب مع لبنان لا يريدها الحزب واللبنانيون، وفي ذات الوقت تراكمت المبادرات السياسية، كتلك القادمة من فرنسا أو الولايات المتحدة، لوضع حلول سياسية مع لبنان. وتعرض تلك المبادرات إمكانية إعادة رسم الحدود لصالح لبنان بشكل جزئي، مقابل انسحاب قوات حزب الله من 7 إلى 10 كيلومترات عن الحدود الجنوبية، الأمر الذي يضمن إعادة عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود للمستوطنات الشمالية.

فالضغط العسكري الإسرائيلي في الشمال اليوم، وفي ظل قياسها لحدود الرد الإيراني في سوريا وحزب الله في لبنان، لا يهدف في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها إسرائيل، حيث لاتزال الحرب في غزة مستمرة، والرفض الشعبي الإسرائيلي يجتاح الشوارع ضد الحكومة، لشن مزيد من الحرب، وإن كانت من ضمن مخططاتها، لكن في الأوقات المناسبة.

حاول نتنياهو المضي قدماً في حربه على غزة، معولاً على الجرائم الضخمة التي يرتكبها فيها، للتغطية على عدم قدرته على تحقيق أهداف الحرب التي أعلنها، عندما شن عدوانه على غزة، على مدار ستة شهور. وفي ظل عجزه عن إخراج المحتجزين، إلا عبر التفاهمات والهدن، يماطل نتنياهو من خلال استمرار انخراطه في مفاوضات عبثية، لا ينوي فيها تحقيق شروط حركة حماس، بقدر محاولاته امتصاص غضب الشارع الإسرائيلي.

وهنا نأتي للمعطى الثالث والأخطر، والذي يتعلق برغبة نتنياهو وحكومته اليمينية بالبقاء في الحكم مهما بلغ الثمن. وقد أكد على ذلك العديد من المحللين السياسيين والقيادات المعارضة في إسرائيل. ففي ظل عدم قدرة جيش الاحتلال على تحقيق إختراق في قضية المحتجزين في جبهة غزة، والحاجة إلى مزيد من الوقت في تلك الجبهة، واستمرار تصاعد الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي بالوتيرة المتسارعة التي نشهدها، تبقى جبهة الشمال مفتوحة للتصعيد، على غير رغبة لبنان، أو حتى إيران، فالحروب الكبرى ستوحد الشارع.

وقد يكون ذلك الخيار ممكناً لنتنياهو للخروج من أزمته، في ظل ما أثبتته التجربة من عدم إمكانية تخلي الولايات المتحدة والقوى الغربية عن إسرائيل، حتى وإن كانت لا تتفق معها. فلولا الدعم العسكري والمالي لإسرائيل اليوم في حربها على غزة، لما استطاعت أن تصمد، ذلك الدعم الأعمى المفتوح، هو الذي قد يسمح لنتنياهو بخوض مزيد من الحروب، غير المنطقية، في سبيل مصلحة البقاء، على حساب مئات الآلاف من أرواح الأبرياء. 

قد يؤدي الضغط الشعبي على نتنياهو، لعدم قدرته على حسم معركته في غزة، ورغبته وائتلافه المحموم بالبقاء في السلطة، لإنفجار حرب مع لبنان وربما أوسع، ولكن يبقى السؤال الموجه لحكومة الحرب الاسرائيلية وللشارع الإسرائيلي ولتلك الدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة، كيف ستستطيع إسرائيل حسم معركتها في لبنان، وهي لم تحسمها بعد في غزة، فجرائم القتل والتدمير وإبادة المدنيين لا يحسم المعارك، مع التذكير أن خسائر الإسرائيليين ستكون مضاعفة عن تلك التي تكبدها الشارع الإسرائيلي في معركة غزة، كما أن الغزيين واللبنانيين لا يتركون أرض آبائهم وأجدادهم، لكن ذلك ليس حال الإسرائيليين، كما أثبتت الأيام الماضية، فهل من عاقل يكبح جماح حكومة فقدت السيطرة على أفعالها؟