هيثم الزبيدي يدوّن شهادة جيل في زمن الانهيار
لندن- صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب "شاهد على العصر الرابع" للكاتب والصحافي العراقي الراحل د. هيثم الزبيدي، وهو عمل تأمّلي شامل يتناول تحوّلات المثقف والمجتمع في العالم العربي على مدى عقد مضطرب بين 2015 و2025، من خلال مقالات نشرت في مجلة "الجديد" التي شارك أسّسها المؤلف ورسم توجهاتها الفكرية منذ انطلاقتها في لندن مطلع 2015.
توزعت مقالات الكتاب على ستة أقسام: "تحولات المثقف والهوية"، "الثقافة والإعلام والفضاء الرقمي"، "الذاكرة، الحكاية، والعزلة"، "المجتمع والسياسة"، "التأملات الشخصية واليومية"، و"مراجعات فكرية"، في قراءة بانورامية عابرة للأيديولوجيا، قادرة على نقد المثقف نفسه كما تنقد السياسات، وعلى استعادة دور الثقافة بوصفها فعلاً تحويلياً لا ترفاً نخبوياً.
استغرق تأليف الكتاب، بحسب المقدمة التي كتبها الشاعر نوري الجرّاح، ما يقارب عقداً من الزمن، شهد خلاله العالم العربي انكسارات جسيمة في البنية السياسية والاجتماعية، أعقبت ما أُطلق عليه "الربيع العربي". وكان الزبيدي شاهداً ومؤسساً لمنبر ثقافي مستقل (مجلة "الجديد")، أراده فضاءً للمثقف الجديد في مواجهة الردّة الظلامية، وانتكاسات الحداثة، وتغوّل الشعبويات.
يوثّق نوري الجراح لحظة انبثاق فكرة المجلة التي تحوّلت لاحقاً إلى منصة لكتاب عرب من مختلف الأجيال والتيارات، ويعترف بشجاعة الزبيدي وتبنّيه المشروع دون تردد، واصفاً الأمر بـ"الانتحاري" من منظور ناشر عربي في تلك الظروف العاصفة، مشيراً إلى أن المجلة وُلدت في "غضون ثلاثة أشهر"، وحملت منذ عددها الأول مانيفستو واضحاً حول دور المثقف الجديد في مواجهة الظلامية والتخلف.
ويؤكد الجراح أن هذا الكتاب، رغم تنوع موضوعاته وغنى مقالاته، لا يمكن فصله عن روح المغامرة التي خاضها الزبيدي، بوصفه مثقفاً وصحفياً وفكرانياً راهن على الوعي في وجه الردّة، وأن القارئ سيجد في هذا النص أكثر من سيرة فكرية: سيجد سيرة جيل، وخارطة تحوّل، ونداء لا يزال يبحث عن صدى.
يطرح الكتاب تصوراً ناقداً لموقع المثقف العربي، من خلال مقالات مثل "نحو مثقف جديد"، "الأسيران: المثقف والمفكر"، حيث يُحمّل الزبيدي المثقف مسؤولية عجزه عن مواكبة الانهيارات الكبرى، وتمسّكه بنماذج تفسيريّة مستهلكة، داعياً إلى استعادة الوعي النقديّ بوصفه سلاحاً فكرياً في وجه الدمار.
في القسم الثاني، يناقش الزبيدي علاقة الثقافة بالإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي، عبر مقالات مثل "المعلم الجديد: كتابة اصطناعية توليدية"، و"عقول سطحية لا تستطيع التركيز"، حيث يعبّر عن قلقه من انزياح الصحافة والثقافة إلى إنتاج سريع وسطحيّ، يُغيّب التراكم المعرفيّ لحساب الاستهلاك الرقميّ.
في القسم الثالث، يستعيد الكاتب المدينة والكتب والمكتبات والماضي الشخصي والحميم بوصفها مكونات لهوية ثقافية مهددة، كما في مقالات "تلك المدينة الجميلة"، "حكايتنا مع المكتبات"، و"احتفاء بالبلدة المغربية". تتحوّل الذاكرة هنا إلى أداة مقاومة ضدّ ثقافة التفاهة والقلق المعولم.
في القسم الرابع، يقدّم الزبيدي تحليلاً حاداً للدولة العربية الحديثة ومأزقها البنيويّ، متناولاً قضايا مثل "الدولة العربية المعاصرة لصاحبها ماد ماكس"، و"الشعوب عصية على التغيير"، منتقداً كلًّا من النظم الاستبدادية والتيارات الشعبوية، ومسترجعاً خطابات الهوية والانتماء في زمن الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية.
يتخذ الكتاب في أقسامه الأخيرة طابع السيرة الفكرية، حيث يكتب الزبيدي عن تجاربه الصحافية ("كلام في الصحافة")، وعن الإحباطات والانكسارات الفردية في مقالات مثل "لا أعرف"، و"دعوة للسخرية"، و"السؤال الضائع"، في سردية مريرة تؤرّخ للذات كما تؤرّخ للمرحلة.
يأتي شاهد على العصر الرابع ليُكلّل مسيرة الزبيدي الممتدّة في الصحافة العربية، حيث أسّس وترأّس عدداً من المؤسسات، مثل صحيفة "العرب" التي كان رئيس تحريرها، وموقع "ميدل إيست أونلاين"، ومجلة "الجديد". وقد اختار أن يكتب هذا العمل بمزاج فكري حرّ، غير خاضع لرقابة السوق أو حسابات المصالح، ليبقى نصاً شاهداً لا فقط على العصر، إنّما على المثقف الذي رفض أن يستسلم لما بعد الحقيقة.
جدير بالذكر أنّ الكتاب جاء في ٣١٠ صفحة من القطع الوسط، بلوحة غلاف للفنّان خضر عبد الكريم الذي رسمها خصّصياً من أجل الكتاب، وتصميم الفنّان جونا ليونارد.
ممّا جاء في كلمة الغلاف:
"شاهد على العصر الرابع" كتاب لا يصنع تأريخاً بارداً، ولا ينخرط في صناعة أوهام مضادّة، إنّما يمشي على الحافّة، حيث يختلط الحبر بالدم، وتصبح الكتابة آخر أشكال النجاة.
يختار الدكتور هيثم الزبيدي، القادم من هندسة الذرّة، أن ينقّب في بنية المجتمعات كما لو كانت مفاعلات مهدّدة بالانفجار، يكتب من منطقة الخطر، بوعي المُشتبك، لا المتفرّج، ويعيد تعريف الصحافيّ بوصفه مؤرّخاً لا يرتاب من الانحياز، حين يتعلّق الأمر بالكرامة، بالمستقبل، بالمجتمع الذي تُعاد هندسته على يد السماسرة والمحرّضين.
الزمن هنا هو "العصر الرابع"، عصر ما بعد الحقيقة، ما بعد الدولة، ما بعد الثقافة. لم يكتب الزبيدي عن هذا الزمن من خارجه، إنّما من عمقه؛ دخل في طبقات الخطاب، في ميديا التواطؤ، في تكنولوجيا الهدم، وتتبّع شروخ الهويّة، وتحلّلات المدينة، وهشاشة الوعي الذي تسرّب من بين أصابع الشاشات.
هذا الكتاب هو خلاصة عقدٍ من التجريب الفكريّ والمواجهة الكتابية، على صفحات مجلة "الجديد" التي حملت مشروعاً ثقافياً وُلد في قلب العاصفة، وأرادت أن تكون الجسر بين المشرق والمغرب، بين الوطن والمنفى، بين من طُرد من التاريخ ومن يحاول إعادة كتابته.
الكتابة هنا لا تهادن، لا تطلب التصفيق، ولا تلهث خلف جمهور عابر. هي كتابة تقف أمام المرآة، تخلع أقنعة اللغة، وتحاسب المثقّف قبل أن تُحاكم السلطات. هي كتابة لا تفرّق بين مقال صحفيّ ومقال وجوديّ، لأنّ القضية واحدة: كيف ننجو بالفكرة من الحريق؟ وكيف لا نتحوّل إلى رماد ناعم في ماكينة العبور الجماعيّ نحو الهاوية؟
في هذا الكتاب، لا صوت للحياد، ولا تبرير للصمت، هناك فقط قلقُ الكاتب، ووحشةُ المثقّف، ومحاولةُ الفهم في زمنٍ كثُر فيه الذين يتكلّمون، وقلّ من يصغون. ومن هنا تبدأ الشهادة... لا لتقول "هكذا كان"، إنّما لتسأل: "إلى أين نحن ذاهبون؟".