واقع اللجوء وأثره على النفس الإنسانية في رواية 'بيت بلا نوافذ'
تنبع التأملات حول الحياة والموت، الهوية والتشظي، والآمال المحطمة من أعماق الإنسان في خضم الحروب والنزوح. في رواية "بيت بلا نوافذ" للروائية الأفغانية نادية هاشمي التي تحكي رحلة أسرة أفغانية تنقلت من بلدتهم في أفغانستان إلى باكستان ثم إلى الولايات المتحدة، وهي دراسة مريرة عن واقع اللجوء وأثره على النفس الإنسانية. ما بين الأمل واليأس، والتضحية والضياع، لتروي لنا حياة أسرة تبحث عن مكان آمن، بينما تجد نفسها تتصارع مع العواقب المترتبة على فقدان الوطن، والأبوة، والكرامة.
تقدم هناوي في روايتها مرآة لواقع اجتماعي وصراع داخلي. من خلال تقنيات السرد، نرى الرواية تعتمد بشكل كبير على السرد الداخلي الذي يغمر الشخصيات في دوامة من التساؤلات والمشاعر المتضاربة. وفي قلب السرد، تكمن شخصية "زيبا"، التي تمثل المثال الحقيقي للتضحية والصبر في مواجهة الظروف القاسية. زيبا، الزوجة والأم، التي تكرس حياتها لعائلتها، تظهر كرمز للأمل في أسرة أُجبرت على العيش في عالم مليء بالخراب. هذه الشخصية تناضل ضد الألم الجسدي والنفسي، وتكرس وقتها في الأعمال اليومية البسيطة، مثل تعليق الغسيل وطهي الطعام، لتظل الأسرة محتفظة برونق الحياة الطبيعي وسط الفوضى.
ولكن، ليست زيبا وحدها التي تبرز بل معها الابن البكر، يحمل أعباء كبيرة نتيجة رؤيته الحادة لحياة أسرته المنهارة. من خلال عينيه، نرى تدهور الحياة من عالم مرير إلى آخر أكثر مرارة في المخيمات، ثم إلى مأساة جديدة في الأرض المجهولة. فبصير، رغم انشغاله بمشاكل المراهقة واندفاعه للبحث عن الكرامة في مكانه الجديد، يكشف عن عمق الألم الذي يخفيه الصمت العائلي، حيث يشهد على تمزق العلاقات التي شكلت جوهر حياته اليومية في وطنه الأم.
أحد المحاور الأكثر تأثيرًا في الرواية هو غياب الهوية الذي يعيشها الأفراد اللاجئون. ففي ظل الظروف الصعبة، يصعب على الشخص أن يحتفظ بهويته الشخصية أو الثقافية. هذا الفقدان للهوية يتضح بجلاء في ما يمر به أفراد الأسرة من تحولات نفسية وجغرافية. ففي مخيمات اللاجئين، تبدو الحياة وكأنها بلا معنى أو هدف محدد، ومهما كانت الجهود التي يبذلها أفراد الأسرة لإعادة بناء حياتهم، فإن شبح الماضي يظل يطاردهم.
لكن ما هو الأكثر إثارة للدهشة في هذه الرواية هو الصراع الداخلي للشخصيات، وخاصة شخصية الأب الذي يصارع مع إحساسه بالعجز بعد فقدانه للمهنة التي كانت تعطيه شعورًا بالكرامة: الطيار الذي أصبح صانع طوب. هذا التغيير، ليس فقط في المهنة، بل في الهوية الذاتية، يمثل العصف بالحلم والكرامة الإنسانية في عالم جديد لا مكان فيه للضعفاء. فهل من فارق بين الأمل والمأساة؟
عندما تصل الأسرة إلى الولايات المتحدة، تتسارع الأحداث لتعرض لنا رؤيتهم عن الحياة الجديدة. فبعد أن كانوا يعيشون في مخيمات اللاجئين، تبدأ حياتهم في مدينة نيويورك حيث يلتقون بالجالية الأفغانية، وتُتاح لهم الفرص ليعيشوا حياة "مستقرة" – على الرغم من أن الواقع مختلف تمامًا عن تصورهم. هذا الانتقال، الذي قد يبدو كفرصة جديدة للانطلاق، يتحول إلى تحدٍ آخر يبرز التناقض بين الحلم الأميركي والواقع. تتخبط الأسرة بين الاندماج الثقافي وصعوبة تعلم اللغة، وبين حفظ الهوية الأفغانية التي قد تضيع في قلب المدينة الصاخبة.
التحولات الثقافية، التي يبدو أنها جزء من حياة كل مهاجر، تفرض نفسها بقوة ، حيث يعاني أفراد الأسرة من أنماط الحياة الجديدة، سواء في التعليم أو العمل، ليجدوا أنفسهم مرة أخرى يقاومون تلك الذاكرة المتأصلة التي تربطهم بماضٍ يرفضونه ويتمنون التخلص منه.
تعكس هناوي في "بيت بلا نوافذ" الصورة الحقيقية للإنسان الذي يهاجر، ويكافح من أجل العيش في عالم جديد، بينما يحتفظ بجروح الماضي في قلبه. ما يميز الرواية هو قدرتها على إيصال تأثيرات الهجرة على المستوى الشخصي والاجتماعي، وعلى إبراز التحديات النفسية التي تواجهها الأسر في ظل الشتات. ورغم أن هذه القصص تروي لنا معاناة ومشاعر الإحباط والفقد، فإنها تقدم في النهاية رسالة عن القوة الإنسانية وقدرتها على التأقلم مع الظروف مهما كانت قاسية، والبحث المستمر عن معنى الحياة، في ظل الألم والحرمان.فماذا عن يوسف وتجسيد الصراع المتعدد الأبعاد؟
يوسف هو تجسيد لصراع متعدد الأبعاد بين الماضي والحاضر، بين الواجب الشخصي والمجتمعي، وبين الحلم الأميركي الذي يحقق النجاح المادي وبين الذاكرة المؤلمة التي لا تستطيع أن تفلت من فخ الماضي، فالهوية المنقسمة بين ثقافتين مختلفتين ، الأفغانية والأميركية. تكشف عن الصراع الداخلي الذي يعيشه يوسف. فيما بعد خاصة عندما يتذكر حادثة انفجار أبيه بالضحك والبكاء بسبب الصينية الفضية، لا يبدو هذا فقط تعبيرًا عن تذكّر الماضي الأفغاني، بل أيضًا عن الخلل العاطفي الذي يعيشه يوسف مع عائلته في ظل الظروف الجديدة في نيويورك. يرى يوسف نفسه في حالة من الاغتراب الدائم، إذ يسعى نحو الاندماج في الثقافة الأمريكية بينما يظل ماضيه يطارده، ولا يجد الراحة الكاملة في أي من العالمين. تجسد العلاقة مع والدته أيضًا هذا الصراع: فبينما تدعمه في مسيرته الأكاديمية والمهنية، تظل هناك نظرات قلق تجاه مستقبله العاطفي، حيث تخشى على تشتت هويته واندماجه الكامل في "الحلم الأميركي".
يوسف هو الشاب الذي يتغذى على فكرة التغيير، وعلى القوة التي يمكن أن يمتلكها الفرد في مجتمعه. يُظهر النص كيف أن يوسف كان متشبعًا بفكرة أن العلم والعمل يمكن أن يغيرا العالم. تأثره بالدراسات حول حقوق الإنسان والهجرة يعكس فكرته العميقة بأن القانون هو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها إصلاح الأوضاع وإعادة العدالة للمظلومين. لكن، مع مرور الوقت، يبدأ في مواجهة الواقع: فحتى ولو نجح في مهاراته الأكاديمية والعملية، إلا أن الإحساس العميق بالفقد والانتماء يظل يطارده، خاصة في علاقته مع إلينا، الفتاة التي يبدو أنها تمثل له النموذج المثالي للحياة الأميركية المطمئنة.
تبدأ علاقة يوسف بإلينا، الفتاة المهاجرة، كشكل من التوازن بين عالمين: عالمه الذي يواجه ماضيه الأفغاني وثقافته، وعالم إلينا التي تمثل التطور الثقافي والاقتصادي الأميركي. العلاقة بينهما تتحول إلى نوع من البحث عن التسوية بين عالمين متناقضين، حيث يشعر يوسف في البداية بمقاومة ناعمة لاندماج إلينا في حياته. في الوقت نفسه، تتطور هذه العلاقة إلى مساحة اكتشاف متبادل، ويبدأ يوسف في الشعور بالارتياح لوجوده بجانب شخص يفهمه، لكن مع مرور الوقت، تتكشف الهوة بين توقعاته والتعقيدات التي ترافق هذه العلاقة. يوسف ينغمس في الحب وكأنما كان يبحث عن شيء أكمل، شيئًا يعوض ما يشعر به من نقص، لكنه في النهاية يدرك أن العلاقة مع إلينا، كما كانت مع مجتمعه الأميركي، ليست كافية لملء الفراغ العاطفي الذي يشعر به داخليًا.
ثم يأتي التحول الأهم حيث يجد يوسف نفسه عائدًا إلى جذوره، إلى أفغانستان التي كانت دائمًا مصدرًا للمشاعر المتناقضة في قلبه: وطنه الذي هجره ولكنه لا يزال يعيش فيه بشكل غير مباشر من خلال ذكرياته وألمه. كان قراره بالمشاركة في قضايا حقوق الإنسان والتحقيق في الجرائم الإنسانية في إفريقيا جزءًا من محاولته لتجاوز ذاته، لكنه في النهاية لا يستطيع الهروب من نداء أفغانستان. ربما كانت هذه العودة هي جزء من رحلة البحث عن الذات التي لا تنتهي. يشعر يوسف أن واجبًا أخلاقيًا يفرض عليه أن ينقذ "الوطن الجريح" الذي لا يزال يحمل آثار الحرب والنزاع.
استخدمت هناوي أسلوبًا واقعيًا نقديًا يكشف عن عمق الصراع الداخلي للبطولة. استخدمت السرد غير المباشر والتوغل في أفكار يوسف الداخلية لتجسيد الصراع بين الواجب الشخصي والهوية الثقافية. العبارات التي استخدمتها ، مثل "كان الهجر ليكون أصعب لولا الوخز الغريب في صدره" تظهر التوتر النفسي العميق الذي يعاني منه يوسف. تكشف هذه الصياغات عن تأثير الذكريات والأحلام في صنع القرار، وكيف أن العواطف العميقة يمكن أن تؤثر في الإنسان في لحظات حاسمة.
فهل من صراع دخلي بين الحلم الشخصي والواجب الأخلاقي. وماذا عن الارتباك العاطفي وتأثيره؟
الرواية لا تقتصر على تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها المهاجرون في مجتمع جديد، بل تكشف عن الطبيعة الإنسانية العالمية للصراع بين الماضي والحاضر، وبين الذات والعالم. وهذا القارئ في حالة من التفكير العميق حول قيمة الهوية، والخيارات الصعبة التي قد يضطر الشخص إلى اتخاذها في مواجهة تحديات الحياة.