وراء الجنون الإيراني.. الداخل وحرب غزّة

لا تصنع الصواريخ والمسيرات هيمنة إقليمية. تستطيع أن تصنع كوارث في المنطقة كلها ولا شيء آخر غير ذلك.

يستعصي تفسير الجنون الإيراني، الذي تكشفه التحرشات المختلفة التي شملت أخيرا دولة نووية إسمها باكستان، سوى بتأزم الوضع الداخلي في "الجمهوريّة الإسلاميّة" من جهة والعجز عن الذهاب بعيدا في استغلال حرب غزّة من جهة أخرى. يعبّر أفضل تعبير عن تأزم الوضع الداخلي الإيراني الغليان الشعبي يضاف إليه حال إنفلات أمني. كشف وجود مثل هذه الحالة التفجيران اللذان استهدفا المشاركين في ذكرى مرور اربع سنوات على إغتيال قاسم سليماني. وقع التفجير الإرهابي في كرمان حيث قبر سليماني واسفر عن مقتل نحو مئة شخص من دون ما يشير، أقلّ إلى الآن عن الهوية الحقيقية للذين يقفون وراء هذين التفجيرين!

اكتشفت "الجمهوريّة الإسلاميّة" أنّ كلّ ما فعلته الأذرعة التي تمتلكها في المنطقة ارتدّت على هذه الأذرعة التي باتت في حيرة من أمرها، حتّى لا نقول في مأزق. الدليل على ذلك أن قدرة "حزب الله" على التصعيد إنطلاقا من جنوب لبنان تبقى محدودة بسبب معرفة الحزب بأن ذلك سيأتي بالدمار والخراب على البلد، بما في ذلك على أهل الجنوب اللبناني ومواطنيه من الشيعة الذين يشكلون أكثريّة في تلك المنطقة. أكثر من ذلك، يصعب رهان "الجمهوريّة الإسلاميّة" على حرب انطلاقا من جنوب لبنان، كونها تتحسّب لإحتمال أن تؤدي هذه الحرب إلى توجيه ضربة قويّة يتلقاها "حزب الله" الذي يمثل الجوهرة الكبرى في تاج الأذرع الإيرانية، خصوصا في ضوء دوره في المحافظة على النظام الأقلّوي في سوريا ونجاحه في السيطرة على لبنان. يضاف إلى ذلك كلّّه، في طبيعة الحال، دور الحزب في اليمن واالعلاقة العضوية القديمة التي تربطه بالحوثيين.

اضطرت إيران إلى التصعيد في غير مكان. ضربت في سوريا وضربت في العراق وضربت في باكستان، بعدما إختبأت طويلا خلف أذرعتها، بما في ذلك "حماس" التي لم تكن يوما بعيدة عن "الجمهوريّة الإسلاميّة"، بل جزءا من سياساتها ومشروعها في المنطقة. صحيح أنّ الحوثيين يعطلون الملاحة، وإن نسبيا، في البحر الأحمر، لكنّ الصحيح أيضا أنّ ما يفعله الحوثيون (جماعة انصار الله) كشف نهائيا أن لا عنوان لهؤلاء غير العنوان الإيراني وأن كلّ ما يفعلونه يتمثّل في تنفيذ تعليمات صادرة عن "الحرس الثوري". يبدو أنّ "الحرس الثوري" لا يدرك أنّ ليس مسموحا بتهديد خطوط الملاحة الحيويّة في هذا العالم وأن البحر الأحمر، الذي هو مدخل إلى قناة السويس، أحد شرايين التجارة الدولية المحظور إغلاقها.

دخلت إيران ما يمكن وصفه بمغامرة جديدة ذات طابع مختلف عن مغامراتها السابقة. لم تعد قادرة على الإكتفاء بما تفعله ميليشياتها التي كانت تشكلّ غطاء لنشاطاتها في سياق مشروعها التوسعي في المنطقة.

يؤكد ذلك قصفها مطار أربيل ومنازل لمدنيين آمنين في إقليم كردستان العراقي. بات مطلوبا من الحكومة العراقيّة التظاهر بأنّها تعترض على الإعتداء الإيراني على أن تسعى في الوقت ذاته إلى خروج الأميركيين من العراق. يبدو كلام رئيس الوزراء العراقي محمّد شيّاع السوداني في دافوس (سويسرا) فضيحة بحد ذاته إذ جدّد دعوته لرحيل التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" من العراق. إعتبر أن انهاء مهمة هذه القوات الأجنبية "ضرورة لأمن البلاد واستقرارها" و"للحفاظ على علاقات الثنائية البناءة بين العراق ودول التحالف"، أي بين العراق والولايات المتحدة تحديدا. ربّما نسي رئيس الحكومة العراقيّة أن النظام القائم حاليا في العراق، وهو نظام تسيطر عليه ميليشيات موالية لإيران، صنعته أميركا ولا أحد غيرها.

يبدو واضحا أن جهود الحكومة العراقيّة منصبّة على تمرير الضربة الإيرانيّة لمنطقة كرديّة عراقيّة، بالتي هي أحسن، أكثر من الردّ على طهران. تكفي مقارنة بين رد الفعل الباكستاني ذي الطابع العسكري على ما فعلته إيران برد فعل الحكومة العراقيّة ومجموعات أخرى راحت تهاجم وزير الخارجيّة فؤاد حسين (كردي) الذي تحدث عن إمكان اللجوء إلى الأمم المتحدة للشكوى من تصرفات إيران... وتواطؤ طهران مع إسرائيل!

يدلّ سير الأحداث وتطورها إلى أن لعبة إيران، القائمة على توسيع حرب غزّة من دون توسيعها، لم تؤد النتائج المطلوبة. أكثر ما أدّت إليه هذه اللعبة يتمثّل في التغطية على حرب غزّة وجرائم إسرائيل.

تغيّر السلوك الإيراني وصولا إلى التحرّش بباكستان. هل إيران في حاجة، لأسباب داخليّة، إلى تصعيد مع دولة سنّية في هذه الأيام؟ يبدو السؤال مشروعا في حال أخذنا في الإعتبار أنّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" تمر حاليا بمرحلة إنتقاليّة، خصوصا في ضوء تقدّم "المرشد" علي خامنئي في السنّ من جهة وفشل "الحرس الثوري" الذي يسيطر على مفاصل السلطة في إرضاء الداخل الإيراني من جهة أخرى. لم تستطع حكومة إبراهيم رئيسي المحسوب على "الحرس الثوري" معالجة الوضع الداخلي الإيراني الذي ازداد تأزما على كل صعيد.

تواجه إيران وضعا في غاية التعقيد، داخليا وإقليميا ودوليا. حملها ذلك إلى دخول مغامرة تقوم على حسابات جديدة. بات عليها، في ضوء هذه الحسابات، إظهار أنّها تمتلك انيابا خاصة بها وأنّها ليست فقط القوّة المهيمنة على العراق وسوريا ولبنان وجزء من اليمن بما يمكنها من تعطيل الملاحة في البحر الأحمر.

ثمّة حدود لمدى قدرة إيران على إستغلال حرب غزّة. لا بدّ في كلّ وقت من العودة بالذاكرة إلى تجربة الإتحاد السوفياتي الذي امتلك صواريخ وقنابل نووية وآلاف الدبابات والمدرعات... لكنه انهار في نهاية المطاف لأسباب داخليّة قبل أي شيء آخر. لا يمكن بناء هيمنة تتجاوز حدود إيران من دون إقتصاد قوي غير موجود في "الجمهوريّة الإسلاميّة". لا تصنع الصواريخ والمسيرات هيمنة إقليمية. تستطيع أن تصنع كوارث في المنطقة كلها ولا شيء آخر غير ذلك!