کوران مريواني.. القصيدة والرأي

الشاعر الكردي يلجأ في قصيدة 'قمر يافا' التي يخلط فيها بين الخيال المتمادي وبين الواقع القاسي الى تکنيك يقترب من مسرح بريخت الملحمي عندما يحرص على جعل المشاهد يبقى واعيا ولا ينجرف ويندمج مع أحداث المسرحية.

أکثر شاعر کتبت عنه باللغتين الکردية والعربية، هو الراحل الکبير مظفر النواب، ولم أکن أتصور أن أکتب عن شاعر آخر کما کتبت عن النواب، لکنني إنتبهت لاحقا بأنني قد کتبت عن الشاعر الکردي، کوران مريواني أکثر مما کتبت عن النواب الذي أنا مولع ومهووس به الى أبعد حد، وبحثت مع نفسي في خلسة من الزمن عن السبب وراء ذلك، فوجدت أسبابا وليس سببا واحدا.

صداقتي غير العادية مع کوران مريواني والتي تعود الى مرحلة تخمر الوعي والرٶية، وتميز مريواني بالکتابة قليلا بل وحتى قليلا جدا، وکان ضمن المجموعة من الادباء والمثقفين التي کانت تلتقي بصورة منتظمة في مقهى مقابل الباب الفرعي لسينما سيروان في السليمانية، لکن کان وکاتب هذه السطور من المواظبين على المطالعة بإستمرار، ولکن الملفت للنظر في مريواني إنه کان يطالع الکتب الفلسفية والفکرية ويرکز عليها وهذا ماکان يظهر واضحا جدا في قصائده القليلة التي کان يکتبها والتي يطغى عليها الفکر والفلسفة أکثر من العاطفة والمشاعر والصور الذاتية.

کوران مريواني بعد الانقطاع الذي حدث بيننا ودام من عام 1976 الى عام 2005، حيث تواصلنا وباتت اتصالاتنا نواظب عليها رغم المشاغل وهموم الحياة، وبين فترة وأخرى يطالعني بقصيدة جديدة كتبها ويطلب رأيي فيها، والحق إنني ولكون العمق الفكري والفلسفي الذي ما برحت قصائده مشرئبة بها، يسلخ من زمني أکثر من اللازم فقد کنت بعد أن أقرأ القصيدة لمرة واحدة وأجدها کالعادة تتسم بالعمق والکثافة غير العادية في السبر الفکري، فأصرف النظر عنها لإشعار آخر، وهذا ماجرى مع قصيدة"قمر يافا" التي أتناولها بالبحث والمحيص هنا، إذ أنه وبعد أن کتبها في 29 أکتوبر/تشرين الثاني 2023، وأرسل لي مسودتها لمعرفة وجهة نظري بشأنها، ولكنني تذكرتها في خضم المواجهة الاسرائيلية ـ الايرانية، فاتصلت به قبل أيام وسألته عن تلك القصيدة وهل لازالت مسودة أم اكتملت، فأخبرني باكتمالها وأرسلها لي.

قصيدة "قمر يافا" التي کتبها في خضم التأزم الايراني ـ الاسرائيلي وفي غمرة الحرب الدامية المندلعة في غزة منذ 7 أکتوبر/تشرين الاول 2023، لکن مريواني کدأبه الذي ألفته لديه بالکتابة بعيدا عن العناوين المباشرة والبراقة إذ لم يعنون القصيدة ب"قمر غزة" مثلا وإنما"قمر يافا" وکلا المدينتين تجمعهما الکثير لکن يافا قطعا کانت والازالت أهدأ بکثير من غزة ولذلك جعلها منطلقا لتناوله ما يجري في غزة من ويلات ومجازر لکنه لم ينظر لغزة کمدينة منفصلة وتنأى بنفسها عن العالم بل نظر للعالم کله ولفت الانظار الى إن الحروب جارية في کل أرجاء العالم، وکأنه يقوم أن غزة حاصل تحصيل هذا الدمار الجاري في العالم کله.

في قصيدة "قمر يافا"، التي يخلط فيها بين الخيال المتمادي وبين الواقع القاسي، لجأ مريواني الى تکنيك يقترب من مسرح بريخت الملحمي عندما يحرص على جعل المشاهد يبقى واعيا ولا ينجرف ويندمج مع أحداث المسرحية، وکوران بنفس السياق، يريد للقارئ أن يکون منتبها وواعيا، إذ في الوقت الذي يزروه القمر ويقرع شباك غرفة مکتبته والتي لم يفتحها لإنشغاله، لکن وفجأة يطالعنا مريواني بأن القمر فتح له بابه! وهذا التعارض والتضاد هو أساسا لجعل القارئ يتمعن أکثر فيما يريد الشاعر قوله.

مريواني عندما يسافر ببيجامته الصيفية مع القمر ويذهب الى عنان السماء، فإنه يريد أن يلفت النظر لأهالي غزة ومناطق حروب أخرى في العالم حيث يضطر الناس للخروج والهروب بملابسهم التي على أجسادهم، لکن حتى الخروج والهروب بتلك الصورة لاتنقذهم مما ينتظرهم من زٶام الموت المرفاق للدمار غير العادي، ولذلك فإنه ينهي قصيدته بالقمر الذي يدور على الارض کسيزيف ألبير کامو أو غودو صموئيل بکيت فيما يجول هو بنظاره على المجازر الجارية في مناطق الحروب!

قمر يافا

شعر: کوران مريواني

ترجمة: نزار جاف

أمام بيتنا جاء القمر فاتحا باب قلبه

قرع شباك غرفة مکتبتي و؛

کنت مشغولا، لم أفتحه.

همس بهدوء وروية،

غاف أنت أم صاح؟

الدنيا غارقة في الحروب!

أفتح الباب لمن تألف إليه.

کنت  غارقا في وسن  وتمطر القذائف

حيث النار حلت مکان المطر.

نزلت الى الاسفل

قلت أيها القمر

لم أغير ملابسي، ولا بهذا الوقت المبکر

قد إحتسيت شايا أسودا بحليب محياك.

قال أيها الصديق! ماعدا السلاح والرصاص

کل ماهو ضروري معي

فتح لي الباب.

رکبت وأنا في بيجامتي.

کنت أرى،

تمطر النار دونما توقف

الدم کان يراق رويدا رويدا

الاشجار کانت تحترق واقفة

الانهر توقفت أمواجها

القمر أيضا أغلق شباکه و

حمل الانجم و

کان يطير برفق في السماء الزرقاء

ويدور على الارض

وأنا أيضا؛

من نافذة القمر

ببيجامتي الصيفية

کنت أجول بناظري على المجازر.