101 غزلية لشمس تبريزي تدعو للعشق

كتاب "مختارات من ديوان شمش تبريزي" يقدم ترجمة لقصائد مختارة من أشعار جلال الدين الرومي.
العلاقة بين الإنسان والحق سبحانه وتعالى قائمة على حب وود
المحبة مقدمة على ما عداها


يقدم هذا الكتاب "مختارات من ديوان شمش تبريزي" ترجمة لقصائد مختارة من أشعار جلال الدين الرومي، ضمّها ديوانه الكبير المعروف بـ "ديوان شمس تبريزي"، الذي نظمه جلال الدين تخليدًا لذكرى شيخه وصاحبه "شمس الدين التربيزي".
ولا تشتمل أغلب هذه القصائد على اسم شمس الدين فحسب، وإنما تشتمل أيضا على إعلاء من قدر هذا الرجل الذي بدا في رأي جلال الدين - قطبًا من الأقطاب تدور عليه رحى القلوب التي تهيم بمحبة الله تعالى، وتنجذب إليه أرواح السالكين، فيقدح فيها زناد الشوق ويدفع بها قدما فى الطريق إلى الحق.
وتضم المختارات ترجمة منثورة لمائة غزلية وغزلية واحدة (101) من ديوان شمس تبريز، نقلها المترجم محمد السيد جمال الدين إلى العربية اعتماداً على المجموعة التى اختارها من الديوان د. محمد رضا شفيعي كدكني، الأستاذ الجامعي والشاعر الإيراني المرموق، ونشرها قى طهران لأول مرة سنة 1342 هـ. ش/1963، وقد طبعت هذه المجموعة بضع طبعات اعتمدت منها على الطبعة الخامسة التى صدرت سنة 1381هـ. ش/2002. 
وتشتمل مجموعة د. كدكني على 466 غزلا، اختارها من 3229 غزلًا ضمها الديوان الكبير، واستبعد من بعضها أبياتاً وجدها لا تنطبق انطباقا كاملا - فى رأيه – "مع معايير علم الجمال أو النقد الأدبي أو ذوق عامة القراء"، فجاءت الغزاليات الطويلة - والتى يبلغ عدد أبياتها ثلاثين بيتاً، فى بضع عشرة بيتا فى مختاراته.
قدم المترجم محمد السيد جمال الدين للمختارات التي صدرت أخيرا عن دار آفاق بمقدمة تعريفية تفصيلية عن كل من جلال الدين الرومي وشمس الدين التربيزي، ثم عرض للقاء الذي تم بينهما والذي أدى إلى التحول الكبير الذي ألم بحياة جلال الدين وفكره وطرائق تعبيره، وانتقل في النهاية إلى الحديث عن ديوان "شمس تبريز" وعن هذه القصائد المختارة، والتي نقل أغلبها إلى العربية لأول مرة.
أكد جمال الدين أن العلاقة بين الإنسان والحق سبحانه وتعالى قائمة على حب وود، كما ورد في القرآن الكريم "يُحبهم ويُحبونه". ومن ثم كانت المحبة هي المقدمة على ما عداها، وهي العلاج لكل العلل والوسيلة المثلى للوصول إلى المقصود. ويتردد هذا المعنى كثيرا فى المثنوي، ولكن الديوان يكاد يكون وقفًا على بيان خصائص المحبة وآثارها، فموضوعه الأساسي هو "الحب الإلهي"، وما يعتري نفس المُحب من مشاعر الشوق واللهفة والألم والأمل، وهي تسعى حثيثا إلى أن تحظى ببارقة تنبئ بلحظات الأنس والقرب الخاطفة التي قد تأتي وقد لا تأتي.
وتلقى هذه المحبة قبولًا وترحيبا من الحق تعالى تتجلى في رحمته بالعاشق وإقباله عليه ورأفته به وتأثره جل وعلا بحرقة الدعاء والابتهال الصادر من قلبه، ومظاهر هذه الاستجابة كثيرة متعددة في هذه المختارات من أشعار الديوان.
ورأى أن الديوان دعوة إلى العشق، وإلى الاندماج فى موكب الحُب الذي يقود الإنسان فيه الكون كله إلى التوجّه إلى خالقه وإلى الإخلاص له وابتغاء وجهه وتحقيق الوصال به، ومن ثم يبدو العشق عند جلال الدين وكأنه القوة المحركة للكون كله، تسري فى أجزاء الوجود بأسره. 
ومن أهم المحاور وأكثرها دورانا في غزليات الديوان موضوع: الوطن الأصلي للإنسان، فالإنسان ليس ابن هذه الأرض، إنما هو ينتمي إلى أصل علوي لا بد أن يشعر بالشوق إلى العودة إليه. وإدراك الإنسان لنبل عنصره واستعداده الروحاني الهائل أمر مهم ولازم، لأنه يمثل الشرارة الأولى لانطلاق السالك يدفعه الشوق وإخلاص القصد إلى السير في طريق الحق. والطريق محفوف بالمخاطر مليء بالعقبات، لكن هذا الإدراك كفيل بتذليل العقبات وتيسير الصعاب، فضلا عن أنه يجعل الإنسان جديرا بنيل العون من الحق تعالى على المضي قدما في الطريق.
وأضاف أن الإنسان حر مخير، قد اجتاز المراحل من حد التراب إلى الإنسانية، مرحلة في إثر مرحلة، والموت ليس إلا لحظة خاطفة ينتقل بها الإنسان إلى مرحلة أسمى من هذه الحياة الدنيا. 
يقول جلال الدين: "من حد التراب إلى البشرية آلاف من المنازل عديدة، دفعت بك من مرحلة إلى مرحلة، ولن أدعك بأول الطريق أو أتخلى.
كما يقول في "المثنوي" متحدثا باسم "الإنسان":
"عشثُ تحت الثرى في عوالم من تبر وحجر،
ثم ابتسمتُ في ثغور زهرات عديــدة الألوان.
ثم جُبت مع الوحش والحيوان المتنقل فوق ظهر البسيطة، وعلى متن الهواء وفي مناطق المحيط.
وفي ميلاد جديد غطستُ في الماء وحلقتُ في الهواء، وحبوتُ على بطني وعدوتُ على قدمي وتشكل سر وجودي كله في صورة أظهرت كل ذلك للعيان، فإذا أنا إنسان.
ثم أصبح هدفي أن أكون في صورة ملاك في ملكوت وراء السحاب، وراء السماء، حيث لا يمكن لأحد أن يتبدل أو يموت، ثم أعدو بعيدا، وراء حدود الليل والنهار والحياة والموت...إلخ".
كل هذه المعاني وغيرها تجد نماذج منها في هذه المختارات، وهي تبين عن مدى ما يضطرم به قلب العاشق من شوق وإقدام، مما يعطي الشعر حركة وانفعالا وقدرة لا نظير لها على التأثير والأخذ بمجامع القلوب، وعلى إشاعة روح التفاؤل والاستبشار في النفوس.
وأشار جمال الدين أن أشعار الديوان تتميز بموسيقاها الجميلة، التي تُعبر عن مدى حب جلال الدين للموسيقى، بل وبراعته التي كان يشتهر بها - كما يقولون - في الضرب على بعض آلاتها كالربابة. ويرجع حب جلال الدين للموسيقى إلى ما ذكره هو في "المثتوي"، من أن آدم - عليه السلام - قد سمع الموسيقى والألحان في الجنة وتأثر بها فعلق حُبها بقلب ذريته، فأصبحت هذه الأنغام العذبة والألحان الجميلة تذكر الإنسان بالجنة وتثير عنده الحنين إلى العودة إلى أصله السماوي.
وقد انعكس حب جلال الدين للموسيقى في الديوان بخاصة، حيث استخدم خمسة وخمسين بحرا مختلفا من بحور الشعر، وهو تنوع في الموسيقى لم يُتح لشاعر آخر سواه، "بل إن الأوزان المهملة التي كانت موجودة في شعر القدماء ثم أهملت.. استطاع الشاعر أن ينظم فيها جميعا حتى أصبحت تنافس الأوزان المألوفة في رقتها وعذوبتها. وقد جاء هذا التوسع في الأوزان عند الشاعر كنتيجة طبيعية لحبه للموسيقى وشغفه بها". 
كذلك استخدم جلال الدين "الموسيقى الجانبية"، كالقافية والرّديف، وما في حكمهما من قبيل التكرار والترجيع. أما "الموسيقى الداخلية" فقلّما تخلو منها غزلية من الغزليات، وهي تتجلى في التناسب الذي يقع بين مقاطع الشطر الواحد، وفي تقفيتها، للتعبير عن مشاعر الشوق واللهفة المتدافعة المتلاحقة التي تدفع بالقلب دفعا خارج العالم المادي، ليُمضي قدما ببهجة الموسيقى ونشوتها وما يصاحبها من انفعال وثّاب خارج حدود الزمان والمكان.
ولفت المترجم إلى أن الشاعر يستخدم "الرمز" والإيحاء ويوظف الطبيعة، وما فيها من مظاهر الجمال والجلال في تعميق المعنى وإضفاء أبعاد جديدة عليه، واستدراج الذهن لنقله من المادي إلى المعنوي، ومن السكون إلى الحركة والحياة. وهو يتخذ من الزهور البهيجة رموزا ملفتة، فالنرجس رمز للعين، والنرجس المخمور رمز لعين الإنسان التي ثملت بخمر المعرفة الإلهية، فأعرضت عن ما سوى الحق – تعالى، لكن هذا الإعراض ليس كاملا لكي يشهد السالك ـ إن لم يتيسر له وهو في هذا الحال معاينة بروق الوصال ـ جانبًا من صفات الحق وقد انعكست على مظاهر الكون أمامه، ومن ثم بدت هذه العين كالنرجسة حين تغمض عينها نصف إغماضة.
 والسوسن رمز للسكون والصمت وإن كان ذا لسان، فهو من هذه الناحية يشبه الشاعر نفسه حين يلتزم السكون والصمت لأنه لا يقدر بأدواته البشرية المتاحة أمامه من لغة وبيان أن يعبر تعبيرا صحيحًا عن التجربة. والبنفسج رمز لمن يضع رأسه في جيب ردائه حزنا وفرقًا. فهذه الزهور تشبه الإنسان وتعبر عنه في مختلف أحواله ومشاعره.
ولفت جمال الدين إلى أنه لما كان الشاعر يخاطب صاحبه وشيخه الجليل "شمس الدين" الذي رأى فيه "الإنسان الكامل" ويخاطب أحيانا الحق تعالى، فقد استخدم الشاعر من الألفاظ والتراكيب والأوزان والقوافي والموسيقى عناصر بالغة العظمة والروعة لبناء صوره وبيان معانيه وأخيلته. وضمّن أشعاره شواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية وقصص الأنبياء والزهاد والصوفية وغيرهم، فبدت كل غزلية من الغزليات وكأنها أنشودة واحدة، أنشودة العشق والمحبة، وهو عشق يسمو بالإنسان مُحلقا به خارج إطار الزمان والمكان، عشق مقصده الحق تعالى، ومصدره الكون بأسره، والإنسان بأحاسيسه ومشاعره.
واشتمل الكتاب على ترجمة للمختارات المقفاة في أصولها الفارسية بقافية الألف والباء والتاء وبعض الدال. وكان الهدف ترجمة تتسم بالدقة الكاملة التي تلتزم النص ولا تحيد عنه، فعمد المترجم إلى ترجمة هذه الأشعار ترجمة نثرية لا تتقيد بقيد من القيود الفنية، محاولا الحفاظ على شيء من جمال الشعر وروائه فاستخدم لغة الشعر وألفاظه، وأبقى على الموسيقى الداخلية للنص الفارسي، وعلى السجع والقافية، حتى يتأذى المعنى إلى القارئ بأدوات الشعر ووسائله دون إخلال بالمعنى الذي أراده الشاعر.
كم أنوح ببرح الأسى، كم أتلوّن بالألوان
حتى أجلو عن مرآة كل منُكر صدءاً
على مطية عشقك يطوي القلب الوهاد والوديان
بكل قدم يقطعُه هذا الركبُ، تُطوى الفَراسخُ من قبل الحبيب آلافا
أظهر ياقوتتك المنيرة لعمى كل عابد وثن
حى يُمطر قُساةُ القلوب من العرش حجرا
أتدري لم أنكروا؟ يرغم أنك تُبدي صبرا وإمهالا
لأن هذه السعادة والإقبال تكون بهم عارا
لو لم يصابوا بعمى البصر، لكانوا قد رأوا فيما وراء النظر
آلاف الأرواح معلقة بالقمر، كنجوم تسطع نورا
حين يصبح كل أعمى، بسعد نورك مُبصراً
يَغدو كل أعرج، بيُمن دربك فارهاً
ألا إن كل عقل عن نفسه ـ في دربك ـ يذهل
إذ نبت في مرجك الأخضر نبت يذهب اللبا
لأجل هذا أرى أُناسا كالنّاي، لا يفترون عن الأنين
لأجل هذا هناك مائتان من أشجار السرو الممشوق
قد انحنت كمنقار طائر حزنا
لأجل هذا تعثرث آلاف القوافل عن السير الحثيث،
لأجل هذا غدت أعداد من السفن المشحونة فوق المياه حُطاما
للمنكسرين أرواح معلقة بالرجاء منك،
كى يُبدي علمك الذي لا ينقد من الفنون ألوانا
كي يُقوض ذلك اللطف الكامن في لُطفك كل قهر
كي يعم السلام والأمن كل قطر، وتمحي الحروب والشحنا
كي يظهر بحث من نوع آخر، كي يكون هناك سير بنحو آخر
ويتجدد في كل حشاشة كل حين مقاصداً.